عندما ضاقت الأرض بما رحُبت على نبي الإسلام محمد وأصحابه في مكة، نصحهم الرسول بالهجرة واللجوء إلى أرض الحبشة، قائلًا «لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها مَلِكًا لا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أحدٌ»، ذلك بحسب الروايات التاريخية في التراث الإسلامي. والحبشة اسم استخدمه المؤرخ اليوناني هيرودوت لوصف الأراضي الواقعة جنوب مصر، بما في ذلك السودان وإثيوبيا الحالية وإريتريا.

حديثنا هنا ينصب على البلد الأُم؛ جمهورية إثيوبيا التي حققت نهضة وتقدمًا كبيرًا بعد تولِّي رئيس الوزراء السابق مليس زناوي (1995- 2012) مقاليد الحكم، حتى أضحت حاليًا واحدة من الدول الخمس الأسرع نموًا في العالم. ذلك على الرغم من وقوعها في منطقة تسودها الصراعات والأزمات، لكنها ظلّت فترةً من الزمن واحدة من الدول الأكثر استقرارًا في أفريقيا مما ساهم في جذب الاستثمارات إليها.

من أهم معالم نهضة إثيوبيا شُموخ مؤسساتها الخدمية والتطور المستمر الذي تشهده، ويعكس ذلك على الدولة دخلًا ماديًا مضاعفًا واستقرارًا في نفسية المواطن الذي يلمس جدية حكومته في نجاح مؤسساتها الكبرى؛ الخطوط البحرية، الخطوط الجوية الإثيوبية، هيئة الاتصالات، مؤسسة البريد والبرق، النقل العام الداخلي، والشركات ذات الصفة الإستراتيجية كمؤسسة البن والشاي. خلال عهدها الحالي، نجحت إثيوبيا في توظيف الخدمة المدنية توظيفًا فاعلًا وجعلها في مقدمة ركب التنمية الذي تشق طريقه بثبات وتركيز، فرغم التغيير الذي أحدثه نظام الجبهة الثورية الحاكم على المستوى المدني في المؤسسات الحكومية، إلا أن النظام اعتمد إلى حد كبير على أسس الخدمة المدنية للعهود السابقة مطورًا لها وفق فلسفته – مستعينًا بكوادره الحزبية في الوظائف الإشرافية والحساسة، وأحاط كافة مؤسسات الدولة بروح جدية ورقابة صارمة لينعكس ذلك في فعالية هذه المرافق مكاتب ومؤسسات حكومية خدمية وغير خدمية، أو شركات حكومية ذات رسالة ربحية.

ما ذكرناه آنفًا يلاحظه الشخص الذي يتعامل مع مسؤولين إثيوبيين، خصوصًا الذين ترتبط وظائفهم بمجال الاستثمار أو السلك الدبلوماسي والقنصلي، فالموظف الإثيوبي يسعى بكل جهد إلى عكس صورة مشرقة وجاذبة للمستثمرين والسياح. وقد لا يجد حرجًا مهما كانت درجة وظيفته «وزير، سفير، مستشار» من الذهاب بنفسه إلى رجال الأعمال في مكاتبهم ليدعوهم إلى الاطلاع على قانون الاستثمار والفرص التي تزخر بها بلاده.

فلسفة الإثيوبيين في جذب الاستثمارات تقوم على معادلة واحدة هي محاربة التعقيدات المتعلقة بالإجراءات، إذ إن أكثر من 28 إجراء يتم تنفيذها من خلال نافذة واحدة «لجنة الاستثمار الإثيوبية EIC»، هذه النافذة تخضع لها حتى مكاتب الاستثمار في الولايات باعتبار أن قانونًا واحدًا يخضع له الجميع وأن قانون الاستثمار الموحد هو السلطة العليا التي يخضع لها الجميع في سبيل سعيهم لإنجاز النهضة. وتُسهم الزراعة بنصف الناتج المحلي، حيث إن إثيوبيا هي الأولى أفريقيًا في إنتاج البُن، وعاشر دول العالم في مجال الماشية، وتُصدِّر الذهب والجلود والبذور والبقوليات، إضافة إلى ذلك بدأت أخيرًا في غزو أسواق العالم بالزهور، فضلًا عن كونها تستعد بخططٍ للعامين القادمين أن تصبح من أولى دول العالم في تصدير نباتات الزينة والورود، بعد أن أصبحت الثانية في أفريقيا بعد جارتها كينيا.

في ما يتعلق بمجال الطيران، فإن الناقلة الوطنية «الخطوط الإثيوبية» التي تتخذ من مطار بولي بالعاصمة أديس أبابا مركزًا لعملياتها، أعلنت عن زيادة أسطولها من 76 طائرة إلى 140 طائرة بحلول عام 2025 كي تصل الأرباح السنوية إلى 10 مليارات دولار. وهي الآن تُسيِّر رحلات منتظمة إلى غالبية الدول الأفريقية ما أهّلها بجدارة لنيل لقب «عاصمة الاتحاد الأفريقي»، بجانب ذلك لديها رحلات إلى معظم الوجهات في شتى قارات العالم، مثل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وغيرهم.

مع كل ما ذكرناه، تُواجه إثيوبيا عددًا من التحديات، أهمها عدم وجود منفذ بحري فهي دولة غير ساحلية، وللتغلب على هذه المعضلة سعت لعقد اتفاقيات مع جارتها جمهورية السودان، للحصول على ميزات تفضيلية في استخدام ميناء بورتسودان الواقع على ساحل البحر الأحمر، لكن بيروقراطية الإجراءات وبُعد المسافة لم يمكنها من الاستفادة القصوى، فقامت بإنشاء خط سكك حديد هو الأطول في أفريقيا يربط العاصمة أديس أبابا بموانئ جيبوتي والذي تم افتتاحه قبل حوالي شهرين.

إضافة إلى ذلك، يشتكي المستثمرون من النظام المالي الذي تتبعه الحكومة؛ إذ تفرض على البنوك أن يكون 27% من القروض موجهًا لصالح السندات الحكومية التي تُمول سد النهضة، كما أن الحكومة تفرض نسبة فوائد أقل من التضخم لتجعل التمويل سهلًا، بجانب خطة الحكومة التي تهدف إلى جعل الادخار يمثل 17% من الناتج القومي يتم الدفع فيها بقوة. هناك أيضًا قضية أراضي إقليم «أوروميا» الذين يرون أن الحكومة الفيدرالية استولت على أراضيهم الزراعية من أجل تسليمها إلى المستثمرين الأجانب ويعتقدون أن بعض الأراضي نُزعت لصالح سد النهضة دون تعويضات مناسِبة.

إن نهضة إثيوبيا وثورتها التنموية التي جعلتها من أسرع الاقتصادات نموًا، لهي تجربة ثرية جديرة بالاحتفاء والدراسة، خصوصًا لدول الجوار الأفريقي التي تزخر بموارد وإمكانيات ضخمة مثل السودان وكينيا وأوغندا وجنوب السودان وإريتريا. هذه الدول يفترض أن تستفيد من إثيوبيا في النهضة الاقتصادية والسياحية، بجانب تجربتها في معالجة الأزمات التي واجهتها أخيرًا، حيث تمكنت حكومة هايلي مريام ديسالين من احتواء الأزمة في وقت قياسي بإعلان جملة من الإصلاحات كان آخرها تشكيل حكومة جديدة راعت في تمثيلها جميع القوميات والأعراق.

 

 

 

 

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد