تصنف الجزائر والمملكة المغربية دولًا مصدرة للمهاجرين غير الشرعيين مند عقود من الزمن، لكن في السنوات الأخيرة لم تعد تقتصر هذه الدول عن كونها بلدان مصدر للهجرة غير الشرعية بل إنتقلت لتصبح بلدان عبور لمهاجرين من دول أفريقية أخرى خاصة من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، ويعود ذلك إلى القرب الجغرافي بين كل من المغرب والجزائر من الجهة الجنوبية وإسبانيا في الشمال وذلك نظرًا للامتداد البري لإسبانيا في القارة الأفريقية عبر منطقتي سبته ومليلية المغربيتين الواقعتين تحت السيادة الإسبانية مما جعلهما الطريق البري للمهاجرين الأفارقة من المغرب، أو عبر مضيق جبل طارق الذي عرف انتعاش لحركة القوارب المهاجرة في السنوات الأخيرة من القرن الواحد والعشرين، ففي عقد واحد تصاعدت أعداد المهاجرين من مليون إلى 6 ملايين مهاجر غير شرعي، رغم التباطؤ الذي شهدته المنطقة الأوروبية بسبب الأزمة الاقتصادية سنة 2008 عادت قوارب الموت لتطفو من جديد في البحر المتوسط وبقوة أكثر خاصة بعد سنة 2011 وبداية ما يعرف بثورات الربيع العربي التي لم تكن ربيعًا لا على الدول العربية ولا على أوروبا على حد سواء، حالة من عدم الاستقرار تسببها ظاهرة الهجرة غير شرعية يهدد فيها أمن الدول المستقبلة، وتخسر فيها دول المنشأ ثروتها البشرية، الوضع الذي يعيد للأذهان دائمًا نفس التساؤلات حول مدى نجاعة الإجراءات المتخذة من قبل هذه الدول لمكافحة ظاهرة الهجرة غير الشرعية.

إسبانيا والمهاجرين غير الشرعيين

شهدت إسبانيا منذ انضمامها إلى المجموعة الأوروبية (الاتحاد الأوروبي حاليًا) سنة 1986 نموًا اقتصاديًا ساعدها في إعادة البنية التحية للبلاد وتحسين وضعها الاقتصادي بوضع سياسيات تنموية ناجعة، التغيير الذي تطلب الكثر من اليد العاملة خاصة في أعمال البناء ما جعل من إسبانيا في منتصف الثمانينات إلى التسعينات وجهة المهاجرين تحولت على إثرها إسبانيا إلى دولة مقصد وأيضا دولة عبور إلى كامل أرجاء أوروبا، وفور انضمام إسبانيا إلى اتفاقية شنغن سنة 1991 بدأت وبطلب من الدول الأوروبية الأخرى التشديد على سياسات الهجرة ووضع قيود على تأشيرات الدخول إلى أراضيها ما شجع ظاهرة الهجرة غير الشرعية في ظل ظروف مزرية كانت تعيشها القارة الأفريقية آنذاك.

تواصلت قوارب الموت ففي الوصول إلى السواحل الإسبانية وتواصلت الأسباب الدافعة للهجرة تتزايد في الجهة الجنوبية من المتوسط خاصة بعد انطلاق شرارة الثورات العربية، وبالرغم من أن سنتي 2014-2015 عرفت انخفاضًا في أعداد المهاجرين غير الشرعيين، عادت إسبانيا مرة أخرى سنة 2018 وتربعت على قائمة أكثر الدول الأوروبية استقبالًا للمهاجرين غير الشرعيين، حيث سجلت شرطة الحدود الإسبانية ما يقارب 58 ألف مهاجر خلال السنة الواحدة.

تزداد خطورة الهجرة غير الشرعية في نظر أي حكومة عندما تتعلق الظاهرة بجرائم أخرى كتهريب البشر أو المتاجرة بالمخدرات أو تجارة الأسلحة والإرهاب، إسبانيا مثلها مثل الدول المستقبلة للمهاجرين غير الشرعيين بدأت بربط الهجرة مع تزايد الجريمة في المجتمع الإسباني خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، وعليه زاد تشديد الحكومة الإسبانية على الحدود، وتزايدت الخطابات اليمينية المعادية للمهاجرين في إسبانيا، ما دق ناقوس الخطر في الداخل الإسباني منذرًا بشرخ من شأنه أن يهدد الاستقرار في إسبانيا بل وفي المنطقة المتوسطية عامة.

ما يجدر الإشارة إليه أن كل الحلول التي أوجدتها الحكومة الإسبانية على مدى السنوات الماضية كانت نتائجها عكسية، فتشديد إجراءات الدخول إلى إسبانيا كان بمثابة وقود أشعل نار الهجرة غير النظامية التي لم تفلح حتى الإجراءات الأمنية في الحد منها، فلا تجريم الهجرة غير الشرعية في القوانين الإسبانية ولا بناء السياج الحدودي ولا حتى نشر القوات الإسبانية على الحدود البرية والبحرية كان رادعًا أمام رغبات المهاجرين غير الشرعيين في الوصول للضفة الشمالية، بل أن الإحصائيات تبين أنه كلما اتخذت الدول المستقبلة إجراءات رقابية وشددت أكثر على دخول الأجانب إلى أراضيها، زادت تدفقات المهاجرين غير الشرعيين إليها، الوضع الذي كان في الكثير من الأحيان سببًا في تدهور العلاقات بين البلدان المصدرة والبلدان المستقبلة للمهاجرين غير الشرعيين، وعليه عرفت العلاقات الإسبانية بكل من الجزائر والمغرب فتورًا وعدم استقرار كان سببه ملف الهجرة غير الشرعية في كثير من الأحيان، فبالرغم من أن منطقة المغرب العربي تحظى باهتمام كبير من قبل السياسة الخارجية الإسبانية لا سيما الجزائر والمغرب نظرًا للقرب الجغرافي والمصالح الإستراتيجية والاقتصادية المشتركة بين الدول الثلاث، إلا أن ظاهرة الهجرة غير الشرعية وما تسببه من إخلال بالنظام والاستقرار الداخلي للدول غالبًا ما كانت وراء توتر في علاقات دول المتوسط، ما زاد من أهمية الحوار بينهم لمواجهة الظاهرة بالقضاء على أسبابها الرئيسية.

لا تحل المشاكل بنفس التفكير الذي أوجدها

رغم الدراية الكافية بالأسباب الدافعة للهجرة غير الشرعية لكن تصر دول حوض البحر المتوسط في المضي قدمًا في السياسات الأمنية لمواجهة الظاهرة، رغم أن أسباب الظاهرة ليست أمنية بالدرجة الأولى بل تتلخص في أسباب اقتصادية كغلاء المعيشة وزيادة نسبة البطالة التي مست حتى طبقة المثقفين وخرجي الجامعات في دول جنوب المتوسط، ويرجع ذلك لانعدام سياسات تنموية حقيقة في هذه البلدان، فلا يمكن بأي حال من الأحوال معالجة المشاكل التنموية الاقتصادية بالطرق الأمنية.

تعتبر الحلول الأمنية لمعالجة ظاهرة الهجرة غير الشرعية حلولًا من طرف واحد وهو الجانب الأوروبي، وهي مجرد إملاءات على دول الضفة الجنوبية التي تلعب دور المتلقي التابع للضفة الشمالية، ولأن أوروبا هي المستقبلة فمن مصالحها أمننة الهجرة لتحقيق الأمن القومي الأوروبي، ما أدى إلى عسكرة خطيرة للمتوسط، ومحاولة تصدير الدول الأوروبية حدودها للضفة الأخرى دون مراعاة لا لحقوق المهاجر غير الشرعي أو لمصالح الدول المصدرة، هذا ما يجعل من ظاهرة الهجرة غير الشرعية متواصلة وفي تنام أكثر حيث سيشهد العالم موجات هجرة غير شرعية أكبر لم يعرفها من قبل خاصة في ظروف اقتصادية صعبة نتيجة جائحة كورونا واستمرار الحروب في الكثير من الدول على غرار الساحل الأفريقي والنزاع في الصحراء الغربية، ليبيا وانفلاتات أمنية في دول أفريقية أخرى.

أساس الهجرة غير الشرعية هي الهروب من جحيم الفقر والمهانة المعاشة في بلدان العالم الثالث والبحث عن الحياة الكريمة في الضف المقابلة، فالأجدر بهذه الدول تحويل المبالغ الطائلة التي تصرف على عسكرة البحر المتوسط الى استثمارات في البلدان المنشأ للمهاجرين غير الشرعيين والتي من شأنها تحسين الوضع الاقتصادي، لكن هذا لن يحدث ما دامت دول الضفة الجنوبية دولا ضعيفة تابعة تتلقى الأوامر ولا تشارك في صنعها، فصناع القرار في هذه الدول غير قادرين حتى على تحقيق نفس المستوى التفاوضي مع دول الشمال وعليه لن يكون لرأي دول كهذه أي قيمة.

بعد سنوات طويلة من الاستعمار واستغلال ثروات أفريقيا وما تبعه من تدهور في الحالة الاقتصادية، اليوم تتحمل أوروبا مع حكومات الدول الأفريقية نفس المسؤولية عما آلت اليه الأوضاع وأكبر نتيجة لذلك موجات الهجرة غير الشرعية، غير أن ونظرًا لضعف موقف قادة دول الجنوب المتوسطي تستمر أوروبا في التهرب مسؤولياتها، ولما لا لطالما في دول العالم الثالث حكام أكبر همهم رضى الدول الأوروبية عنهم وآخره حفظ ما تبقى من كرامة شعوبهم.

الهجرة غير الشرعية مستمرة فالفواعل التي كانت سببًا في الأزمة لا يمكن أن تكون هي نفسها من تجد الحلول لها، وما دامت دول جنوب المتوسط غير مستقرة لن تنعم أوروبا بالأمن والاستقرار مهما حاولت.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد