في 25 يناير (كانون الثاني) من عام 2006 حصدت حركة حماس فوزًا كاسحًا في الانتخابات التشريعية، ليشهد التاريخ الفلسطيني بعد هذا الفوز تحولًا، بات يعرف باللعنة، وخاصة بعدما حل الانقسام في 2007 الذي كان مقدمة لتدهور القطاع.

منذ هذا التاريخ، ومنذ تاريخ الانقسام تحديدًا، تحول القطاع لضَغينَة سياسية وعسكرية مضاعفة، في ظل وجود الاحتلال الإسرائيلي وممارساته العدوانية الظالمة بحق أبناء الشعب الفلسطيني، تمثلت هذه اللعنة والضغينة، بالقتال المسلح بين أبناء القطاع، واللجوء للقوة العسكرية ولغة الدماء، بعد فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية لأجل مباشرة الحكم، حين أن حماس  أسمت هذا العنف بـ«الحسم»، توصيفًا يُعبر عن اتخاذها حلًّا يوفي بتولي زمام الأمور، وحل عقدة تشبث نظيرتِها بالحكم، وهي حركة فتح التي أطلقت أيضًا على هذا الحسم مصطلح «الانقلاب»، أي التغيير المفاجئ في نظام الحكم الذي اتخدته حماس ضد الحكومة، بمختلف مجالسها ووزاراتها ومجالسها التشريعية، وبذلك سيطرت حماس على القطاع برمته، وباشرت مهامها الحكومية.

ما نتج من هذا الاقتتال العسكري؛ الحقد والشرخ في النسيج الاجتماعي بين أبناء الوطن الواحد، وتعزيز مفهوم الثأر بين العائلات الفلسطينية؛ وذلك بعد الدماء التي اندثرت والأرواح التي أزهقت نتيجة الاقتتال الداخلي، والذي كان أشبه بحربٍ أهلية، ليبقى هذا الشرخ حاضرًا حتى يومنا هذا.

كما نتج من هذا الانقسام تشكيل حكومتين، واحدة بالضفة، وتقوم عليها حركة فتح، وأخرى في قطاع غزة تحت سيطرة حركة حماس، مما ساهم في زيادة انهيار النظام السياسي الفلسطيني بعدما كان يعاني من غياب «رئاسة وحكومة»، ليعاني من وجود سلطتين؛ كل منهما معادية للآخر بفعل الانقسام الذي أحدث تمزقًا ملحوظًا في المجتمع الفلسطيني.

وبهذا يدخل القطاع عامه الرابع عشر من الحصار والتشرذم، ووصلت البطالة إلى  نسبة 44%، والتي تزداد نسبها كل عام عن الآخر.

ولا يجب أن نغفل ازدياد معدلات الهجرة في كل عام، وظهور معضلة قوية باتت تُعرف بأزمة الكهرباء، والتي حازت حديث العالم دون تغيير على جداوله، غير أنها تزاد سوءًا في ظل العجز والتقليص المستمر.

وكذلك نزول الكثير من الشرائح الاجتماعية تحت خط الفقر ليرتفع نسبته إلى 65%، وإفلاس كثير من الشركات والمحال، وغلق أبوابها، وتسريح الموظفين، والحبس على الذمم المالية بسبب تراكم الديون وعدم قدرة التجار على الوفاء بالتزاماتهم.

يضاف لذلك زيادة في معدلات الجرائم وحالات الانتحار، وتراجع الوضع الصحي والغذائي، وكثيرًا ما شهدت الأسواق حالات من الركود وما زالت تشهد هذا الركود بسب غلاء المعيشة الذي خفض من نسبة القوة الشرائية للمواطن الغزّي، وخاصة بعد إحالة السلطة الفلسطينة 26 ألف موظفة وموظف إلى التقاعد القسري خلافًا لإرادتهم ودون إعلامهم، وخلق أزمة الرواتب التي تمثلت بخصم نسبة معقولة من رواتب موظفي حكومة رام الله في قطاع غزة، لتطول هذه الأزمة قطاعات أخرى ليذهب التقليص لموظفي وكالة «UNRWA».

لم يقتصر الانقسام على هذا فقط، بل تسبب في انهيار الكثير من المشروعات الاقتصادية والريادية وتوقفها، بعد عجزها عن مواجهة الركود وحالة الانهيار في جميع المجالات، ولاسيما أزمة موظفي 2005 الذين راحوا ضحية هذا الانقسام، ويعاني غالبيتهم من فقر مدقع، نتيجة تدني الدخل والخصومات التي تفرض على رواتبهم باستمرار.

في المقابل، تبرر حماس تدهور الأحوال المعيشية في غزة وأزمة معبر رفح بأنها مؤامرة تحيكها السلطة لإسقاط حكومتها، في حين أن حكومة رام الله أعلنت أنها تخصص 58% من ميزانيتها لدعم غزة. لكن سياسة فرض العقويات المشروطة، التي فرضتها السلطة الوطنية الفلسطينية في مارس (آذار) 2017، إثر تشكيل حركة حماس لجنة لإدارة القطاع، جاءت نوعًا من الضغط على حكومة غزة؛ لأجل حل اللجنة وتسليم القطاع لحكومة الوفاق الوطني لضمان رفع العقوبات، والتي جاءت لتزيد من تأثيرها في كافة مناحي الحياة في قطاع غزة؛ في ظل الحصار الإسرائيلي المشدد المفروض على القطاع منذ العام 2007، هذه السياسة مكنت حكومة غزة من تملصها إزاء الانهيار والانزلاق في قطاع غزة لتزيد مبرراتها قوة وحجة على أن العقوبات هي المعضلة الأساسية لهذا الانهيار وتلك الأزمات، وبهذا تعلن براءتها من مآسي القطاع براءة الذئب من دم يوسف.

إن جميع المؤشرات السابقة تثبت أن الاستراتيجية التي مارستها حركة حماس في حكم قطاع غزة، من سياسة اتباع القوة وفرض الضرائب و الهيمنة وتطبيق قانون الغاب، أفشلها من إسقاط الاتهامات على عاتقها، حول نتائج الحصار المفروض على القطاع، وكذلك تدهور الأوضاع الاقتصادية والإنسانية، وبهذا التدهور قد استنفذت جميع طاقاتها في تمثيل دور الضحية أمام مؤامرات الاحتلال والدول المجاورة، مما سمح باهتزاز الجبهة الداخلية الفلسطينية في القطاع، كما وفر البيئة لتنظيم حراكات شبابية شعبية كانت مطالبها معيشية تدعو لإسقاط حكمها، رغم نجاحها في قمع تلك الحراكات بالعنف والاعتقال للشباب القائمين عليها؛ بدعوى أنها تتبع أجندات خارجية داعمة، ولربما تخدم مصالح صهيونية أو مصالح دول في المنطقة.

وعلّ آخرها كان في شهر مارس 2019، وهو ما أطلق عليه حراك «بدنا نعيش»، الذي استطاعت الحكومة إخماده كما الشعب، ليس هذا فحسب، بل إن هذا الواقع أضعف حركة حماس في مواجهة جدلية «الحكم والمقاومة»، رغم أن هذا الجدل كان غطاءً سياسيًّا تهرب به الحركة من الفشل الحكومي والتدهور الكامل لكل مناحي الحياة في غزة، و الذي كان سببًا في حكمها.

كما أنها فشلت في احتضان قطاع غزة المحاصر وتقديم الدعم والسند، وتقاسم لقمة العيش بالتساوي بين الجميع، بل احتكرت هذه اللقمة لأجل أن تحمي قوتها العكسرية، وبقاء حكمها ونفوذها في ظل المؤامرات الدولية لإعلانها منظمة إرهايية، كما أنها لم تجنب المساجد والمؤسسات التعليمية من لغة المناكفات السياسية، مما أفقد الشارع الغزي الثقة بتلك الأماكن، خاصة تبنيها في الخطاب الإعلامي والسياسي أسلوب التكفير والتخوين والملاعنات الحزبية، وكل ما يوغل الصدور، ويكرِّس ثقافة التلاحي والانقسام، في حين كان لازمًا عليها الارتقاء لخطاب سياسي وطني في ظل هذا الشرخ وهذه المؤامرات الدولية ضد المقاومة والقضية الفلسطينية عامة، في حين أنها حركة مقاومة قبل توليها الحكم.

إن لغة القوة والغطرسة هي المتصدرة على جميع الأصعدة لحكومة غزة؛ والتي تُرجمت بالاعتقال السياسي، والضرب والتعذيب وسيلة لقمع وإخماد المطالبين بالحريات والحياة الكريمة، ولعل هذه الاستراتيجة المتبعة ساهمت كثيرًا في هجرة الشباب من القطاع، ولو لاحظنا لوجدنا أن غالبيتهم ممن طالهم الاعتقال السياسي.

إن حكم حماس خلق نوعًا من السخط بين الشباب الغزي، ولا سيما في ظل ما نراه على مواقع التواصل الاجتماعي في حالة تبعث بالسلبية، حول ما يعانيه الشباب من ظلم وقهر دون الاكتراث من قبل صناع القرار، في محاولة إنقاذ مستقبلهم من هذا الانزلاق المستمر إلى الهاوية، وبهذا أصبحت غزة ثكنة كولونيالية لجميع الدول التي استغلت هذا الانهيار للمنظومة السياسية، ليشعر أبناء القطاع أن أبواب جهنم مؤصدة عليهم في ظل شعور الاعتقال وأنهم رهائن موت لهذا التآمر، لذلك سيطر شعور بافتقارهم للأمن والأمان.

ومن أبرز نتائج هذا الانقسام سياسة الطعن التي تنتهجها حركتا حماس وفتح، في محاولة مطالبة كل منهما برحيل الآخر، فتجد أنَّ هذا أسلوب يأتي في سبيل تحوير الأسباب الحقيقية عن انهيار القطاع، وتأجيج المؤشرات إلى نحو يحمي كل منهما من تحليل يأتي مضاربًا لأهدافهما، وليظهر كل منهما أمام المواطن الغزي بالبريء من تلك النتائج.

ليس هذا فحسب، فما تستنتجه أن هذا الانقسام قد أنتج جيلًا من المنساقين دون وعي، أي حشد فكري وممارسة الاستراتيجية الديماجوجيّة، وهي خداع أبناء تلك الحركات، وتضليلهم بالشعارات والوعود الكاذبة، وإطراء وتملق الطموحات والعواطف الشعبية، رغم افتقارها إلى البرهان أو المنطق البرهاني، بهدف الحصول على التأييد الشعبي والانسياق الأعمى للحكومة القائمة، وفي ظل هذا التضليل الأعمى، فإنك تجد هؤلاء الملتحقين لم يوقظ الحذر بداخلهم بعد؛ لأن البرهان الذي من شأنه أن يبعث في التفكير الحذر من كل هذه السياسة المنتهجة ضد عقولهم غير موجود في سياسة التعبئة والديماجوجيّة.

وبهذا تجد نشطاء تلك الحركات يتحاربون بشراسة ضد رفع وعلّو وثبات الحكم دون الاكتراث للانهيار الاقتصادي والسياسي الحاصل، فهذا التكتيك المتبع استطاع تحويل الطاقات الشبابية إلى آلات يجري التحكم بسلوكها حتى تصبح مؤهلة لخدمة الحكومات، ولعل هذا ما أنتج الجبن والضعف والاستسلام والصمت، فيما أن الصمت أولى نقاط التآمر ضد قطاع غزة لتكون إجابة النتائج أن القادم من كل عام أسوأ في قطاع غزة.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد