تَغنى الشعراء والأدباء بالمحبوبة وجمالها وسحرها وأخلاقها، ومدحوا الملوك والسلاطين والأمراء وأصحاب الجاه والسلطة والنفوذ، وإن لم يهملوا فقد تجاهلوا مسقط رأسهم ونشأتهم على حساب التغني بالمحبوبة، وما تتمتع به من صفات جذابة.

اليوم لا مكان لأحد أمام عشق مسقط رأسي ومكان طفولتي، هذا المكان الذي تربيت فيه وترعرعت في أحضانه منذ نعومة أظفاري، عندما كنا صغارًا ونشاهد بعض الأفلام التي تتحدث عن مكان الطفولة والنشأة، يعاني البطل كثيرًا من فقدانه لوطنه الأم، ومهما بلغ مستويات عالية من النجاح وحقق المزيد من التقدم في دول الاغتراب أو اللجوء، تبقى دموعه حاضرة تذكره بنشأته وطفولته وبيته هناك، في صغرنا كنا نجهل هذا الشعور لأننا لم نعِشْه، إلى أن كبرنا وتوضحت الصورة أمامنا.

تبقى الذاكرة تلحُ عليه في الغربة في أوقات فرحه وحزنه في أوقات نجاحه وفشله، ماذا لو كانت هذه الأحداث بين أهلك وأصدقائك الذين عشت وتربيت معهم وبينهم في قريتك أو وطنك، أتعلمون هذا السؤال كم يراودني أو يراودكم في اليوم سأترك الإجابة لكم.

هذا السؤال كفيل بأن تذرف الدموع كثيرًا لأجله ولأجل إجابته التي ستكون غالبًا مؤلمة أمام الجميع، وأنت في قمة فرحك أو حزنك سيترك لك غصة في القلب يجهلها كل من لم يغادر وطنه، وسيكتفون بمواساتك بكلمات تعبر عن تضامنهم معك، ولكن هيهات أن يشفى القلب، أو تنسى الذاكرة ما تركه حنين الوطن أو مكان الطفولة من ذكريات وتفاصيل.

هذه القطعة من الروح ومسقط رأسي (خربة غزالة) والتي تقع في الجهة الشمالية الشرقية من مركز محافظة درعا في الجمهورية العربية السورية، وعلى بعد حوالي 20 كم من مركز المحافظة وحوالي 90 كم عن العاصمة دمشق جنوبًا، في سهل خصب في الشمال الشرقي من محافظة درعا، وهي مركز ناحية يحدها من الشمال قرية نامر، ومن الغرب داعل وعَتَمان، ومن الجنوب الغارية الغربية والشرقية والنعيمة ومن الشرق الكرك وَعِلما، تقع على الأوتوستراد الدوليّ الواصل بين دمشق وعمان.

خربة غزالة تلك القرية البسيطة، والمحظوظة بمحبة أبنائها ووفائهم لها وحبها لهم ولكل من يعرف هذه الأرض من أراضي حوران، تلك القطعة من قلبي ومن قلب كل من عاش فيها، وعاشر أهلها من آل الحاج علي والعمور والزعبي والمصري والنقاوة وبديوي وقنبر والموصلي والنويران والبكاوي وأبو زايد وأبوعرة والشبلاق واللبان والناطور، وكل العائلات الكريمة التي عاشت مع بعضها البعض، تربطهم وحدة الدين والمكان والتاريخ والثقافة والعادات والتقاليد المشتركة والأنساب فيما بينهم، تربوا على المحبة والخير فيما بينهم وعلى مبادئ الكرم والشهامة.

تتمتع خربة غزالة بعدد كبير من المتعلمين والمثقفين والقامات بمختلف تخصصاتهم، وهي منطقة خالية تمامًا من الأمية ومشهود لأهلها بالعلم والثقافة، ناهيك عن طبيعة أهلها الطيبة والبسيطة والتي لا تعرف الحقد والكراهية.

شهرتها بالزراعة بمختلف أنواعها من القمح والحبوب والخضروات والأشجار المثمرة كالزيتون والعديد منها، لم تأتِ من فراغ والسبب هو نشاط أهلها وحبهم للعمل والحياة، وتوفر الأرض الخصبة للزراعة.

بحكم دراستي الجامعية وعملي في دمشق، حاولت أن أختصر عدد الزيارات لها ولكن الحنين كان أقوى من كل المحاولات وتعلقي بها أنهى كل الخطط، فإن مضى أسبوع أو أسبوعان وأنا في دمشق ولم أقم بزيارة لأهلي وأصدقائي هناك يخيم الحزن والأسى على نفسيتي طيلة أيام الأسبوع الذي يليه، كوني كنت محصورًا بأيام العطلة وهي يوما الجمعة والسبت من كل أسبوع.

لا أخفيكم أن لفصل الشتاء نكهة خاصة في خربة غزالة، رائحة التراب ورائحة السهول المحيطة بها وخاصة طريق درعا- خربة غزالة، كلها عشق بعشق مناظر الطبيعة الخلابة ما بعد الجسر وتلك مياه الأمطار التي غمرت الشوارع والأرصفة لكل فصل من فصول السنة له نكهته الخاصة هناك، لأنه مفعم بالحب والبساطة مفعم بالهدوء.

رمضانها وأعيادها ومناسباتها الصباح والمساء غروب الشمس أتذكرون كأس الشاي أو القهوة أو المتة أمام بيوتنا في المساء؟

ربما يسألني أحدكم لماذا كل هذا الحب لها؟

سيكون الجواب لأنها الغزالة وعيونها، هنا أقف عاجزًا تتوقف الكلمات يغص القلب بالألم دقاته مسرعة وبقوة أستحضر الذكريات والمواقف، هناك أرى أمامي الشوارع والمحال التجارية، أرى سهولها والمداخل والمخارج أرى الساحة العامة والمسجد العمري الكبير واللحام خليل والنسر الذهبي لمواد البناء وصيدلية هناء ومطعم العرفان، وإلى شمالها الغربي المخبز والسكة الحديدية ومحطة القطار، أرى سوق الخضار كل يوم أحد وأربعاء ومحلات قوس قزح وعمر الخطيب للغذائيات ومطعم أبو صافي برج السلطان والزايد للمفروشات، أرى ثانوية غزالة الرسمية والبريد والمؤسسة الاستهلاكية للرز والسكر، أرى بيتنا وحديقتنا في الحي الشرقي والأشجار التي زرعتها أمام البيت وفي الحديقة النعناع والبامية والليمون عيوني تدمع بشدة أتوقف عن الكتابة والبكاء هنا سيد الموقف.

ما يؤرق النفس ويحزنها أن حياتنا وذكرياتنا وأجمل لحظات طفولتنا وتفاصيل صغيرة وكبيرة ولدت هناك، في تلك البقعة الجغرافية فرحنا في حاراتها ولعبنا في ملاعبها وجلسنا هنا وهناك في شارع الزعبي والحي الغربي والشرقي، وفجأة وبكل بساطة اختفى كل شيء وكأنه حلم.

أرهقنا الحنين والشوق، ومهما كتبت فيها فلن أوفيها حقها، فهي غنية عن التعريف في شتى المجالات، وتاريخها يشهد بذلك منذ الانتداب الفرنسي وحتى تاريخ 18 مارس 2012 عندما قامت مجموعة مسلحة بتفجير الجسر الغربي لخربة غزالة، والقضاء على أي فرصة لبقاء المنطقة آمنة للسكان والنازحين من القرى المجاورة، والذين هربوا من القصف الكثيف على قراهم والتجؤوا لخربة غزالة في ذلك الوقت، بسبب الأمان والهدوء الذي تتمتع به.

وفي يوم أسود خيم عليه التشاؤم وبعد معركة خاسرة انتهت بسيطرة الجيش السوري، تم تهجير أهالي القرية قسريًا وذلك بتاريخ 12/5/2013م بسبب تآمر الجميع على أهلها، فمنهم من ترك بيته وأغراضه وخرج لا يملك سوى قوت يومه إلى القرى المجاورة طالبًا العون من الله، وقسم كبير من أهلها لجؤوا إلى الأردن والدول المجاورة طلبًا للأمان، أطفالها ونساؤها وشيوخها كل هؤلاء تركوا بيوتهم وخرجوا تاركين خلفهم قصصًا وروايات تتحدث عن كل شيء، إلا عن الغدر والخيانة التي تعرضوا لها، خرجوا منها بكل هدوء صامتين، ولكن في القلب غصات وغصات يعجز اللسان عن وصفها.

بعد التهجير اجتمع أهلها على وسائل التواصل الاجتماعي لمتابعة أخبار بلدتهم الجريحة، ومتابعة بعضهم البعض يجمعهم الحب والمودة والخبز والملح، وظهور حساب على الفيسبوك باسم (رضوان صافي ابن البلد) أضاف نوعًا من المحبة والأخوة، لما ينشره على صفحته الشخصية من أخبار ومستجدات عن أهل البلد وشخصياتها، بالإضافة لعدد كبير من الناشطين من أهلها ساهموا في نقل آخر التطورات، اليوم أهلها يناجون الله عز وجل ويسألونه العودة القريبة لبيوتهم وأرضهم وأن تنتهي هذه الحرب الطاحنة في وطنهم الأم سوريا، ليعم الأمن والأمان ويجتمعوا على الخير بإذن الله.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

ويكيبيديا
عرض التعليقات
تحميل المزيد