«الفيسبوك يسرق حوالي نصف وقتي. أشعر أنني بتواجدي على فيسبوك أظلم نفسي وأجلد عقلي وأنهك جسدي، ومع كل ما يفعله الفيسبوك بي آتي وأرمي بهمومي على جداره آخر اليوم».

«فيسبوك» الموقع الأزرق للتواصل الاجتماعي والذي صيّرنا نحن وتحديدًا العرب غير اجتماعيين بالمرّة، على اعتبار أننا نأخذ شكل اللصوص التي تسترق النظر عن حياة الآخرين من بعيد ودون أن يشعروا بنا. نتطفل على بعضنا البعض يوميًا بل وكل ساعة نحاول تقليد «فلان» وتجاوز «علّان». نعلّق على ما قالوا وندمن مشاهدة فيديوهاتهم وطرق عيشهم، ببساطة صرنا لصوصًا افتراضية. نسترق مشاعر الناس لنبني مشاعرنا ونتبنى كلام «الفيسبوكيين» لنغطي به الفراغ في تعابيرنا.

أنت عارٍ ولا خصوصية بعد اليوم

مشاركاتنا اليومية لما نفعل، أمكنة تواجدنا، حالتنا العاطفية والنفسية، صور عائلاتنا، أكلنا ولبسنا… كلها باتت ضروريات عند الأغلبية فلا يكتمل اليوم دون مشاركتها على فيسبوك وكأن مشاعرنا باتت مقيّدة باطّلاع الكلّ عليها، البعض منا يفعل ذلك لقتل الوقت لا أكثر، والبعض الآخر يشارك تفاصيله لوجوده مهربًا من العالم الواقعي للافتراضي والبعض الآخر يشارك يومه بقصد إبهار الناس وإظهار عنصر الحيوية في حياته. كلنا نفعل ذلك لأسباب عديدة ولا أحد يعلم السبب الفعلي، وهو الإدمان على فعل ما.

تزييف للمشاعر وتشييء للذات

بعد التحسينات الجديدة التي طرأت على موقع فيسبوك صار لمستخدميه مساحة أوسع تتجاوز الإعجاب والتعليق للتعبير، فبتنا نتفاعل بافتضاح أكبر على المنشورات وهو ما يمنح للفرد المقابل مساحة أكبر لمشاعره وعقله برد الفعل. والتفاعل مع المنشورات بالإعجاب أو الحب أو الغضب أو السخرية أمسى استنزافًا للمشاعر، وقدرة الفرد على التواصل مع كلّ ما يراه صارت مجرد فعل اعتيادي يمكن له أن يخرج عن السيطرة ليعتاد عليه العقل والجسد. ومن هناك يصبح التفاعل مع المنشورات نوعًا من الزّيف أو المجاملة المجانية التي نفعلها لا لشيء سوى لفت انتباه بسيط للناس بأننا مررنا من هنا والسلام.

مكان الـ«كن فيكون»

بفضل الموقع الأزرق بإمكانك أن تصبح ما تشاء. مصوّرًا؟ التقط بعض الصور وكن كذلك. ناقدًا؟ تهكم على بعضهم وصر ما تشاء. شاعرًا وأديبًا وعالًما في الاقتصاد والسياسة والسوسيولوجيا. مهدئًا جنسيًا أو بالعكس خذ مكان «الفياغرا» وافعل ما تشاء.

على أرض هذا الموقع ما يستحق التحليل، فكل فرد صارت له الحرية أن يكون ما يشتهي ويكفي أن يكتب ما يشاء في خانة العمل ليصير كذا. وكل ما تشتهي أن تراه وتشاهده في جولة حول العالم يمكنك أن تراه تجسيدًا افتراضيًا عن الواقع هنا. رومانسية، رياضة، كلام سياسة، أدعية دينية وسور قرآنية، مسلسلات وثرثرات. كل ما تتمناه ستجده هنا يكفي أن تُكبّل يديك بجهازك الإلكتروني وأن تنسى عالمك الخارجي ومرحب بك في المملكة.

عبيد دون رقيب

مستخدمو فيسبوك أغلبهم مرّوا بمرحلة الخطر والتي يشعر فيها «الفيسبوكي» بأنه صار بعيدًا عن مرحلة الاستغناء عنه ومجرد التفكير بإغلاق حسابه – ولو ليوم – يدخله في حالة هستيرية من التفكير في كيفية قتل الوقت دون فيسبوك وما إذا كان قادرًا على تنفيذ قرار القطع معه، فبربكم أليست هذه العبودية بذاتها؟

عدا ذلك، أيها المستخدم العزيز إن كنت تريد إخراج الوحش بداخلك والتهكم أو شتم من تشاء أينما تشاء ومتى تشاء يكفي أن تكتب ما تشاء أيضًا وأن تنقر على زر الإرسال فتتم العملية بنجاح، هذا وكل دون أن تُعاقب، خاصة وإن كنت من مستخدمي الفيسبوك بحسابات وهمية، هناك تكمن اللّذة.

عالم من الأكاذيب

فيودور دوستويفسكي يقول: «اهرب من الكذب قبل كل شيء، اهرب من جميع أنواع الكذب ولا سيما كذب الإنسان على نفسه. راقب ذاتك وافضح الكذب في نفسك كل ساعة، وكل لحظة». أمّا «فيسبوك» فأول ما يدفعك لفعله هو الكذب وما يشجعك على ذلك كونك تختفي وراء جهازك وتنشر وتقول وتكتب ما يحلو لك مع إمكانية البرهنة على كذبك بصورة مفبركة أو فيديو مركب وتمارس ببساطة حريتك الكاملة في فعل ما تشاء ولو كان كذبًا وأوهامًا وما خفي أعظم.

تجارة مربحة

في الفيسبوك – معشوق الانتهازيين – يصبح كل شيء للمتاجرة. الإعاقة للمتاجرة من قبل صفحات الفيس لاقتناء أكبر عدد من الإعجاب ولتكبير بالصفحة. العجز والفقر والخصاصة للمتاجرة بأموال الناس ومشاعرهم، الحب أو ما يدّعيه المستخدمون للمتاجرة واستنزاف المشاعر وقضاء الوقت فتُعجب بتلك وتصاحب تلك وتغازل الأخرى ثم تواعد الرابعة.

الفيسبوك بات أنسب مكان للمتاجرة بأي شيء والهدف هو المتعة وإشباع الرغبات أو الكسب بأنواعه و«إن لم تصدقني فاعلم أن ذنوبك منعتك».

فيسبوك علمنا الركاكة، وهجانة السلوك واستسهال الأمور وتشييء أنفسنا ومشاعرنا واستهلاكها دونما حساب أو إعادة نظر في كيفية استعماله. ولعل إدارة الفيسبوك عليها أن تضع ضمن شروط التسجيل شرطًا في الصدارة «لا تجئ هذا العالم دون وعيك وصحِّ تفكيرك قبل الدخول».

لا شك من أن هذا الموقع هو مزيج متداخل الأغراض وما زالت قائمة أفعاله بنا تطول وتتمدد ورغم كل سيئاته، له من الإيجابيات قدر وافر. «مارك زوكربيرج» خلق من الفيسبوك عالًما يضم ملايين الناس ويجمعهم ولو على التفرقة.

«زوكربيرج» خلق ثورة ودخل التاريخ من أوسع أبوابه بصناعة هذا الموقع فماذا صنعنا نحن بفيسبوك؟

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد