عبر أثير عوالم الإنترنت الرقمية وفي ساحات الشبكة العنكبوتية الممتدة من حولنا يدور هذه الأيام جدال في منتهى السخونة عن قضية ليست بالجديدة وغير مرشحة للركود قريبًا بأي حال. القضية هي خصوصية بيانات مرتادي الشبكة ومستخدمي الإنترنت. القضية التي أصبحت ناقوس خطر حقيقي تم قرعه بشكل صاخب مع احتلال شبكات التواصل الاجتماعي للشبكة ومستخدميها. ما هو هذا الجدل وعما يدور؟ هذا ما سأحاول عرضه من خلال السطور القليلة القادمة.
في الخامس والعشرين من مارس لهذا العام نشرت الأكاديمية الوطنية للعلوم بالولايات المتحدة الأمريكية ورقة بحثية بعنوان ” Experimental evidence of massive-scale emotional contagion through social networks” وترجمة العنوان هي “الأدلة التجريبية لعدوى عاطفية/ شعورية على نطاق واسع في الشبكات الاجتماعية” الدراسة أجراها قسم التواصل وقسم علوم البيانات بموقع التواصل الاجتماعي الأشهر فيسبوك، الموقع الذي ستصل من خلاله في الأغلب لهذا المقال. عن ماذا يدور البحث وإلى ماذا وصل؟ سأقتبس التالي وهو ترجمة لمدلولات البحث كما وردت في مقدمته:
“تبين لنا – أي القائمون على التجربة في موقع فيسبوك- عبر تجربة واسعة النطاق شملت 689.003 مستخدم للفيسبوك، أن الحالة العاطفية Emotional States يمكن انتقالها للآخرين عن طريق عدوى عاطفية Emotional Contagion مما يقود الناس لاختبار ذات المشاعر دون وعي منهم. نثبت في بحثنا هذا بالأدلة التجريبية حدوث هذه العدوى بدون أي تفاعل مباشر بين الأشخاص (كالتعرض والتواصل مع صديق يختبر هذه الحالة العاطفية بشكل كافٍ) وفي ظل غياب كامل للتلميحات أو الإشارات شفهية”.
ما قامت به التجربة بشكل مختصر هو أنه تم التأثير والتحكم في ما يراه موضوع البحث من مستخدمين على الصفحة الرئيسة للموقع أو News Feed. عادة هذه الصفحة تحمل مشاركات من أصدقائك من المفترض أنها تعبر عن حالتهم العاطفية أو المزاجية. بشكل عام ومنطقي فإن أصدقاءك ينتجون من المشاركات اليومية أو التدوينات الشخصية ما يفوق قدرة الشخص الواحد على الإطلاع. وهنا يأتي دور News Feed في فيسبوك – وهو الدور غير المقتصر على التجربة وإنما ما يتم بشكل معتاد عبر آلياته- في تنقية هذه المشاركات والقصص وإظهار ما يفترض أنه من دواعي اهتماماتك الشخصية وفي نطاق تفضيلاتك. كيف يعرف هذا الساحر ما تفضله وما يدور بخلدك؟ عن طريق لوغاريتمات برمجية تقوم بدراسة ما تفضله وما تتوقع رؤيته وما تقوم أنت شخصيًّا بمشاركته أو إبداء الإعجاب به.
بشكل أكثر توصيفًا تقوم كمستخدم بتغذية اللوغاريتم بكل ما يلزم من بيانات لتحليلك ومن ثم إظهار ما تود أن يظهر. التجربة نفسها بسيطة وإن كانت خطيرة. قام الفريق البحثي بتوجيه محدد لما يظهر لديك من مشاركات الأصدقاء على News Feed- أي تم التلاعب في اللوغاريتم الآلي- وبالتالي كانت التجربة وما خلصت إليه أن بتحديد وتوجيه نوعية هذه المشاركات وما يظهر بأن يكون مثلاً موسومًا بحالة عاطفية أو مزاجية سلبية أو حزينة أو سوداوية أو العكس بأن يكون موسومًا بحالة عاطفية أو مزاجية إيجابية أو سعيدة أو متفائلة، تم استنتاج أن الحالة العاطفية العامة لأصدقائك على News Feedمعدية كما وصف البحث، وأنه بالتبعية ستقوم أنت شخصيًّا بإنتاج مشاركات تنتمي لذات نوعية الحالة العاطفية التي تم تقديمها لك!
تم إجراء التجربة ما بين 11 و18 يناير 2012 وتم اختيار عناصر التجربة الـ689.003 بشكل عشوائي وفي إطار المستخدمين ذوي التواجد المستمر بشكل يومي على فيسبوك والمشاركين بـ post واحد على الأقل يوميًّا حتى يتم تطبيق شروط ومواصفات العينة المستهدفة. تقنيات البحث وعملية الفلترة بسيطة ولا تنتمي لأفلام الخيال العلمي: تم إضافة قائمة من الكلمات الدالة للحالة المزاجية المرغوبة وتم برمجة لوغاريتم صغير لحساب مستوى تكرارها في المشاركات وبالتالي إن تحققت الاشتراطات المطلوبة في المشاركة وأنها وفقًا للقائمة هي مشاركة على سبيل المثال سوداوية سيتم إظهارها عبرNews Feed وإهمال غيرها.
بالتالي سيكون News Feedالخاص بالعينة لا يظهر إلا حالة عاطفية محددة لأغراض الدراسة. وفيما يتعلق بالقياس لردود الفعل فالأمر بسيط وهو متابعة كم مشاركاتك القادرة على المرور عبر ذات الفلتر وبذات التكرار العددي للكلمات الدالة على الحالة المزاجية التي تم استهدافك بها. الأمر بسيط جدًّا في الحقيقة.
قبل الانتقال للغرض من مقالي هذا سأشارككم بتجربة شخصية قمت بإجرائها قبل الشروع في كتابة المقال وهي بالرغم من تواضعها إلا أنها كانت دالة بالنسبة لي على الأقل، ويمكنك إن أردت أن تتجاوز هذه الفقرة تمامًا. قمت بإنهاء ملفي الشخصي على فيسبوك وإنشاء حساب جديد. بداية قمت بالأمر بشكل تدريجي أي أنه في وقت ما كان كلا الحسابين فاعلاً وعاملاً. قمت بإضافة مجموعة من الأصدقاء الحقيقيين وليس مجرد المعارف في الحساب الجديد. في هذا الحساب أيضًا قمت بإجراء المزيد من ضوابط الخصوصية المتوافرة على الموقع كحجب القدرة على البحث عن اسمي عبر محركات البحث ومنع غير أصدقاء الأصدقاء وأصحاب المعارف المشتركة من إضافتي وتحديد الوصول لمشاركاتي لقصره على الأصدقاء فقط ولمعلوماتي الشخصية على شخصي أنا دون حتى الأصدقاء أو حجبها بشكل كامل.
في الحساب القديم امتنعت عن المشاركة بأي مشاركات دالة حرصًا على إبقاء عمل News Feed بشكله المعتاد ووفقًا لمشاركات الأصدقاء وتفضيلاتي وبياناتي السابقة المحددة لفلترة News Feed. في الحساب الجديد امتنعت تمامًا عن الإعجاب بأي صفحة عامة على الموقع وقمت باختزال المشاركات من قبلي لأقل قدر ممكن وقمت بتنويعها (مشاركة لفيديوهات طريفة وموسيقية ومشاركة لصورة بتعليق سياسي ومشاركة ببوست خاص كتابي). النتيجة لهذه التجربة البسيطة لأبعد الحدود هو News Feed مختلف تمامًا بين الحساب القديم والحساب الجديد!
طبعًا طبيعة الاختلاف شخصية وليست من شأنك بصراحة كي أشاركك بها – أعذر وقاحتي واكمل المقالة كي تعي السبب- لكن يمكن أن أقول أنها كانت تجربة مبهجة ومنعشة في فيسبوك لم أعهدها منذ عهد، ثماني سنوات هي عمر الحساب القديم. كم المواد الدعائية قليل بشكل ملحوظ ونوعية المشاركات القادمة من الأصدقاء متنوعة وغير محددة المزاج أو مقصورة على حالة عاطفية محددة. الحساب الجديد و News Feed أصبحا أكثر شخصية بالنسبة لي بعدد أقل من التفاعل طبعًا لكنه تفاعل حقيقي غير زائف. باختصار نجحت كمستخدم في التأثير في لوغاريتم الموقع بشكل ما رغم ضعفه لكنه كان تأثيرًا ذا عائد أكبر علي شخصيًّا.
عودة إلى اللغط والجدل الثائر حول تجربة القائمين على فيسبوك. هنالك هجوم حاد من قبل المستخدمين والمهتمين بقضايا الخصوصية على التجربة وأخلاقيتها وانتهاكها الصارخ – وإن كان بشكل مستتر رغم صخبه- للخصوصية. طبعًا لا يوجد أي انتهاك قانوني هنا لأنه ببساطة باستخدامك للموقع وموافقتك على شروط استخدامه فإن هذه الشروط واتفاقية الاستخدام ذكرت نصًّا حق إدارة الموقع وفريق أبحاثه في استخدام بياناتك لأغراض تحليل البيانات والبحث العلمي!
لكني أود أن أشاهد النقاش من وجهة نظر مختلفة، كما شرحت الورقة البحثية فإن التجربة تثبت علميًّا وبالأرقام أن الحالة المزاجية والعاطفية لمستخدمي فيسبوك لها طبيعة عمل العدوى وتنتقل بين المستخدمين دون وعي حقيقي منهم وهي حالة قادرة على التمكن من مزاجك لدرجة أخذ قرار شخصي بالفعل والتحرك بالتعبير عن ذات الحالة عبر فيسبوك. وهو ما يطرح تساؤلاً حقيقيًّا عن واقع فيسبوك الذي تزوره بشكل مقدس بشكل يومي وربما كل ساعة وطبيعة تأثيره في مزاجك العام؟ الحالة الثورية العامة للفيسبوك أيام ثورة 25 يناير خلقت ثائرًا صغيرًا داخل أغلب من نعرف. حالة التفاؤل العامة كانت معدية والدعوى للتحركات الإيجابية كذلك.
اليوم الحالة المزاجية العامة لفيسبوك لدينا كشباب مصري مثلاً هي حالة لا يمكن وصفها بالإيجابية بطبيعة الحال وتتسم بقدر كبير من التشاؤم والسلبية. مما يؤثر على مزاج مستخدم الموقع الفردي بقدر ما لينقل هذه الحالة إلى حياته الشخصية والعامة. ذات الأمر يحصل بين جمهور أي وسيلة إعلامية وهو ما تحولت إليه مواقع التواصل الاجتماعي وفيسبوك على رأسها طبعًا. إعمالاً للخيال وبغرض كتابة المقال يظهر تساؤل مشروع وإن ارتدى عباءة نظريات المؤامرة: أليس الأمر به قدر من الواقع أن نتخيل أن هذه الحالة من الكآبة والسواد والأخبار الباعثة لانعدام الأمل هي حالة مصطنعة وبها قدر عالٍ من التوجيه؟
الأمر الآخر هو أن مخاوف انتهاك الخصوصية الشخصية لمستخدمي المواقع الاجتماعية أمر حقيقي وليس مجرد كابوس. ليست خصوصيتك مقتصرة على معلوماتك السرية وأرقام حساباتك في بنوك سويسرا. ليست فقط في صورك وباقي بياناتك وعلاقاتك الاجتماعية. كابوسية الأمر المتحققة أنه وبموافقتك الكاملة صار من الممكن انتهاك خصوصيتك الحقيقية التي لا تعرفها عنك حتى أعتى أجهزة الأمن والاستخبارات. ما بداخل رأسك.
لا أقصد أفكارك فهذه معلنة أو مخفية ذات جانب مادي يظهر بالتعبير عنها قولاً أو فعلاً. بل أقصد تفضيلاتك الشخصية حول ما تحب وما تكره. ما تفضل وما تبغض. حول ميولك ومزاجاتك وما يمكنه فعلاً توجيهك وخلق حتى أفكارك. تلك الأمور الصغيرة التي قد لا تعي قدرتها على التأثير بك والمشابهة لحد بعيد لفكرة فيلم Inception للرائع كريستوفر نولان. حيث إن زرع تفضيل واحد بك يمكنه أن ينمو ليصبح فكرة غاشمة طاغية تسيطر على كل حياتك وعلى كل انتماءاتك.
لنكن أكثر عملية وإيجابية: لا أدعوك هنا للتخلي عن مثل هذه المواقع الاجتماعية فأنا شخصيًّا لا أستطيع إتمام الأمر رغم تفكيري به عدد من المرات. أدعوك لاستخدام أكثر رشادة وحذر لمثل هذه المواقع. اقترح عليك قراءة تجربتي الشخصية أعلاه واتباع الممكن منها، لا داعٍ لبدء حساب جديد فأنت لا تقوم بتجربة عملية كما قمت، إن استطعت ذلك فهذا أمر جيد وإن لم تستطع قم بالدخول بعد قراءتك للمقال على حسابك الشخصي وغير من إعدادات الخصوصية بالشكل الملائم.
قم بتنقية حسابك من المتواجدين عليه وهم فعليًّا ليسوا بأصدقاء أو أفراد عائلة لك. قم بمشاركة أفكارك وتفضيلاتك إن أردت ولكن بشكل مسؤول. وأي ما كان ما ستفعل، كن متحملاً لأي من عواقب أفعالك. زيارتك للإنترنت لم تعد مجرد نزهة. كلما وجدت نفسك أمام منبر للتعبير عن شخصك – وليس فقط أفكارك- تذكر أنك لست وحدك. في عوالم الإنترنت كعوالم أورويل دائمًا هنالك أخٌ أكبر يراقبك.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست