تُظهِر الصورة الشخصية لحسابي الوحيد على «فيسبوك» رسمًا لشخصية كرتونية، شخصًا يرتدي بدلة سوبرمان، ولديه كرش. لا أتذكر مصدر الصورة، فقد مضت سنوات منذ وضعتها صورةً شخصية. ولكن شيئًا خفيًّا بالصورة يجعلني أشعر أنها تمثلني. لا أعتقد أنه القوة الخارقة لسوبر مان، ربما يكون الكرش؟
إذا قمت بِعَدِّ مشاركاتي السنوية على فيسبوك فلن تتجاوز أصابع يديك الاثنتين، على أقصى تقدير. كما أنني لست المستخدم الأمثل للمنصة. لا أتابع مشاركات الأصدقاء أو العائلة ونادرًا ما تجد تفاعلًا مني على مشاركة أحدهم. أتساءل كثيرًا، لماذا أنا هنا؟
أقضي حوالي 25 دقيقة في الحافلة التي تتهادى نحو الجامعة. رأسي مزدحم تمامًا بأمور العمل والدراسة. أقرر أن أمضي الدقائق التالية في التصفح العشوائي لمشاركات «فيسبوك» حتى أفرغ بعض الهواء من رأسي. أصطدم بملف شخصي مثير للاهتمام لفتاة في العشرينيات، (رانيا)، تعمل مهندسة حديثة التخرج في المكتب التمثيلي لإحدى شركات السيارات الأمريكية بدولتها العربية. تملأ صفحتها مئات من المشاركات التي يمكن تصنيفها تحت إطار النصح الاجتماعي مع لمسات دينية واضحة. تسمح (رانيا) لزوار ملفها الشخصي بمتابعتها، وهي خاصية يقوم بتفعيلها من يرغبون في تقديم محتوى بشكل منتظم. لدهشتي، كان هناك عدد لا بأس به من المتابعين، قرابة الخمسة آلاف مستخدم يتابع ما تنشره (رانيا)، التي تشير بشكل متكرر وبفخر شديد لإنجازاتٍ حققتها، بدون تطرق لأي تفاصيل يمكن أن توضح لنا ماهية تلك الإنجازات، أو كيف أمكنها تحقيقها، وهي التي لا زالت تخطو أولى خطواتها المهنية. المهم أننا نعلم أن حول رانيا كثير من الأعداء (يا رب أبعدني عمن يكره أن يرى سعادتي، ومن كل عين حاسد وقلب حاقد)، (ابتسم واضحك من قلبك، برغم كل التحديات والظروف)، (قمة الثقة هو أن تصمت عندما يستهزئ بك الآخرون، لأنك تعرف من أنت ومن هم) بعض الأمثلة من المشاركات اليومية لـ(رانيا).
يمتلك كل إنسان عددًا من الصفات الشخصية التي تساهم بشكل جوهري في تكوين هويته. لا يختلف أحد على أهمية الصدق مع النفس في الحفاظ على الهوية المميزة لكل منا، ولكن يعاني الكثيرون من صعوبة في التعبير بِحُرية عن الهوية الخاصة بهم أمام الآخرين. تقول دراسات علم النفس أن الأشخاص القادرين على التعبير بحرية عن شخصياتهم الحقيقة، يحرزون نتائج نفسية إيجابية، تشمل على سبيل المثال: تقديرًا موضوعيًّا لموقعهم في اللعبة بدون مبالغة، وشعورًا عامًا بالإنجاز. على الجانب الآخر، يشكل القلق من حكم الآخرين عائقًا أمام البعض، وخصوصًا أولئك المولعون بالشكل والمظهر الخارجي؛ إذ يمنعهم من إظهار سماتهم الحقيقية. يملؤهم الخوف من أن يتسبب ذلك في انتقادهم أو تصنيفهم بشكل سلبي أو غير مفضل. جاء «فيسبوك» ورفقاؤه من المنصات، ليسمح لهؤلاء الأشخاص بمساحة أكبر للسيطرة على الطريقة التي يقدمون بها أنفسهم. يمكنك الآن أن تختار ما ترغب بمشاركته عن نفسك، وأن تستمتع بكمية مفتوحة من الوقت للتواصل مع الآخرين بطريقة محسوبة، فتصيغ مشاركاتك أو ردودك لتُظهِر فقط الجانب الذي تريد له أن يظهر أمامهم. هل يعتبر هذا تزييفًا؟ ربما، لا يهم. فبالنسبة لـ (رانيا)، ما يهم أنها تتقن مفاتيح اللعبة، والآخرون يُقدِّرون ذلك حتى وإن بدا مزيفًا.
بعد أربع ساعات قضيتها في محاضرة مملة، أجلس في المكتبة لاستكمال بعض الأعمال على جهاز الكمبيوتر الخاص بي. حاليًا أتطوع بالتحكيم في إحدى المسابقات الدولية لتقييم محتوى الإنترنت. يقوم أصحاب المشاركات بالتقدم للمسابقة السنوية عن طريق كتابة مقدمة مختصرة توضح: لماذا يستحق المحتوى الخاص بهم أن يفوز. أدهشني مقطع فيديو رائع تقدمت به مجموعة من ثلاثة شبان من دولة غربية. رغم أنهم لا زالوا طلابًا في مرحلة الدراسة الثانوية، اتسم العمل بمستوى متقدم من الجودة والاحترافية، قد تضاهي ما يقدم على منصات فيديو معروفة. اندهشت أكثر بعد قراءة مقدمتهم التي جاء فيها: «نأمل أن يرقى عملنا هذا للقبول في المسابقة». وفي إجابة لسؤال «إن ربحتم، ما هي خططكم لاستخدام الجائزة المالية؟» كانت الإجابة «لا نعتقد أننا سنصل لمرحلة التنافس على الجائزة النهائية، ولكن إن حدث ذلك، فسنستخدم الأموال في الحصول على تدريب احترافي في هذا المجال واستكمال طريقنا». كيف أمكن لهؤلاء أن يتحلوا بهذا الكم من التواضع، والبساطة في نظرتهم الشخصية لما أنجزوه؟
أروي لزميل قصة (رانيا) متندرًا، فنتجاذب الحديث حول أمثلة مشابهة، ثم يريني ورقة بحثية نشرتها الرابطة الأمريكية لأبحاث علم النفس عام 2019، يجري الباحث فيها استطلاعًا للرأي حول الخطوات التي تقوم بها عينة من مستخدمي المنصات الاجتماعية قبل نشر مشاركة ما. تقول (سوزان)، إحدى المشارِكات في التجربة، أن قيودًا اجتماعية غير مكتوبة قد تشكلت بينها وبين قائمة أصدقائها على المنصة، وأنها تخصص جزءًا كبيرًا، من يومها للبحث عن أفضل وسيلة لجلب عدد من الإعجابات يفوق الرقم الأقصى الذي أحرزته فيما سبق. تقضي هذا الوقت بين تفقد مشاركات قائمة الأصدقاء للتأكد من أنها لن تقوم، ولو على سبيل المصادفة، بنشر ما يشبه مشاركة أحدهم، واختيار أفضل صورة للمشاركة، ثم تمرير تلك الصورة على ثلاثة تطبيقات مختلفة لإضافة التأثيرات وتحسين الألوان، ثم ترك الصورة جانبًا لبضع ساعات، بينما تختمر لديها فكرة لأفضل شرح مصاحب للصورة «caption»، وأخيرًا نشر الصورة بعدما تتأكد بأنها هي والنص قابلان لجذب الأنظار بشكل كافٍ.
ربما يكون الإنترنت والتقدم التقني من أعظم ما قدمه الإنسان خلال هذا العصر، ولكن بالنسبة لمن يتبع نمط حياة (سوزان)، فأعتقد أن حياتهم كانت ستكون أفضل بكثير في عصور سابقة، إذ لم يكن أحدنا يحتاج لمثل هذا الجهد اليومي فقط للحصول على القبول أو التأييد من الآخرين.
ألتقي بصديق عاد لتوه من القاهرة. نتجاذب أطراف الحديث؛ فيحكي لي عن زيارة رتَّبها لأحد أصدقاء الدراسة القدامى خلال تواجده هناك. بعد سنوات من الغياب، أراد صديقي أن يقضي وقتًا جيدًا مع الرفيق في أحد مقاهي وسط القاهرة. ولكن الآخر أمضى معظم الوقت في تصفح شاشة هاتفه المحمول، مع جمل مقتضبة وردود قصيرة لا ترقى لأن تكون حوارًا، يتخللها أسئلة من نوع (هل رأيت ذلك الفيديو الذي نشره فلان؟ ينبغي أن تراه، سأرسله لك الآن). يقول صديقي أنه بعد 45 دقيقة قضاها على هذه الحالة، شعر بأن صديقه لم يُقدِّر زيارته أو يترقبها كما فعل هو. بدأ في التفكير في طريقة لطيفة للانصراف. ولكن خطيبة صديقه ظهرت فجأة في المكان، فيما بدا وكأنه لقاء مرتب. طلب الآخر من صديقي أن يلتقط بعض الصور له مع خطيبته، وفورًا تشارك الخطيبان في ارتجالِ تصورٍ كاملٍ لفكرة الصورة والنص المصاحب لها عند مشاركتها على «فيسبوك»، بشكل يجعلها تبدو مصادفةً لطيفة بين حبيبين حدثت دون تنسيق، في أحد شوارع القاهرة المزدحمة. شعر صديقي بالانزعاج بعد أن طلبا منه بفظاظةٍ إعادة الصور لمراتٍ ومراتٍ عديدة من زوايا مختلفة، حتى رضي العصفوران نوعًا ما بجودة الصور التي التقطها لهما. استأذنا وانصرفا، مع وعد شكلي بضرورة اللقاء ثانيةً. تركاه وحيدًا في المقهى.
يا له من يوم مُتعِب. أقف في المحطة لانتظار حافلتي. إنه وقت الذروة؛ إذ يزيد عدد الركاب وتطول مدة الرحلة. أخرج هاتفي من جيبي، أحتاج لشغل الوقت بينما أصل للمنزل. لا، ليست فكرة جيدة، فالبطارية على وشك الانتهاء. أعيد هاتفي وأقرر أن أُطبِّق قاعدة مُدرِّسي في المرحلة الثانوية (انظر إلى يمينك أو يسارك، اختر أقرب شخص منك، انظر له وابتسم، اسأل عن رأيه في الطقس اليوم). أنظر يمينًا، أرى شابًا يحدق في شاشته، تخرج من سماعات أذنيه موسيقى صاخبة. أنظر يسارًا، فأرى فتاة منهمكةً برفع هاتفها بأفضل زاوية لالتقاط أفضل صورة لوجهها «selfie». أُخرِج هاتفي من جيبي، أتصفح «فيسبوك».
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست