لا أخفيك سرًا أيها القارئ أننا قد سمعنا التحذير. ولا ننكر أننا قد رأينا علامات التحذير ممتدة على طول الطريق.

جلس معنا الكبار وأنذرونا. قالوا احذروا فسنون الطب عجاف.

قبل حتى أن تطأ أقدامنا أول محاضرة قالوا لنا: «حلوة أسنان، فلوسها حلوة». مع احترامنا طبعًا لطلبة أسنان، فهي أقرب الكليات إلى معاناتنا. ولكن دراستها أقصر وأسرع في العمل بعد التخرج.

لا ننكر أن بعضنا سمع نصيحتهم. ولا ننكر أن بعضنا نظر للأمر بمنظور تحدٍ واستعلاء. فشمَّر عن ساعديه ودخل الطب عازمًا على التفرد.

ولكني – وللحق – الأمر بالنسبة لي لم يكن تحديًا؛ فالطب البشري حلمي منذ أن كبر عقلي وتكون رشدي. لا لكونها «كلية القمة» كما تدعي المنظومة الهرمية لمجتمعنا، فالحق أنها كلية تحطم الطلبة، ولا أجد في دراستها قمة من أية جهة، ولكني أحب الطب والأطباء.

هذا حلمي، وللناس في أحلامها شؤون كما تعرف!

الآن وقد أنهيت سنواتي الأكاديمية العجاف وأنتظر الدراسة الإكلينيكية، فقد جاء دوري في إسدال النصح والنقد للصغار المقبلين على مثل هذا العناء، ولكن لا إشكالية هنا، فما أقوله لا يتعدى كونه إفضاءً بالحديث و«فضفضة» إذا جاز التعبير.

أما بعد أن وضعنا النقاط على الحروف، فكثيرًا ما نلتقي بهذا الذي أثبتته التجارب أن دراسة الطب جحيم. في أول أسبوع لك في الدراسة ستستلم كتبًا لن تستطيع حتى حملها وستدخل غرفة مغلقة على بابها كلمة «مشرحة»، وهذا كفيل بهز المرء بعض الشيء!

إذا أردت أن أذكر لك محاسن الدراسة فعدا عن كلمة «دكتور» في تعليقات السوشيال ميديا – والتي لا نستحقها طبعًا –  فليس هناك ما يستحق الذكر تقريبًا، البرستيج لا غير يا صغيري، البرستيج.

كما قلت الدراسة جحيم. فكل مادة لها من الهموم ما لها وكل يوم محاضرة ولكل محاضرة يجب فهمها وحفظ ما فيها كاسمك الثلاثي. لا أنكر أن دراسة القلب والشرايين والكبد والرئة وكل هذا له رونقه. ولكن مئات الصفحات من الكتب تطفئ شمعة الحب تلك، فلا تكاد تذكر من عامك الدراسي إلا لحظات أقرب للكوابيس التي تؤرق صاحبها ليلًا.

دراسة الطب تحتاج أعصابًا من حديد وثباتًا نفسيًا غير عادي. فالتوتر والأمراض النفسية تلاحق طلبة الطب جميعًا. أتحدث هنا عن الليالي السوداء التي نقضي فيها الوقت في «حشو» المعلومات استعدادًا لامتحان المادة كذا غدًا. وتحاول النوم فلا تستطيع من التوتر، وكأنك ستقابل المغول في موقعة عين جالوت غدًا! ضع نفسك في مثل هذه الظروف، ثم قل لي بربك كيف لا تمرض؟!

أما عن الكتب فحدث ولا حرج. فالطب الحديث صنعة غربية، ومن حق هؤلاء تسمية اكتشافاتهم كما يحبون، ولكن لا تملك أنت الطالب عندما تقابل أسماء أدوية تتعدى المقاطع الثلاثة والمتشابهة جدًا لدرجة أنك تشتبه أن دكتور المادة نفسه قد يسهو عن أحدها بل وتتساءل عما كان يفكر هؤلاء عندما اختاروا اسمًا مثل هذا؟! فبعد أن يتصادم عقلك بعشرات المترادفات المبهمة كل يوم، تنام لتستيقظ على محاضرة جديدة ومعلومات جديدة.

قد تتساءل أيها القارئ عن سبب تلك العتمة في كلماتي، أنا الذي قلت لك إن الطب هو حلم طفولتي! أنا لم أغير رأيي. فالطب كان ولا يزال حلمي. ولكنها كلمة حق يجب أن تُقال.

فماذا يكون رد فعلك  عندما ترى هذا الفتى أو ذاك ممن تفوقوا في الثانوية العامة يقول إن الامتياز – لكونه من 85% أو 87% في بعض الجامعات – أمر حتمي. وكأنه المسكين قد ذهب إلى الشمس وعاد عندما حصل على العلامة الكاملة في الأحياء والفيزياء!

مثل هؤلاء يجب أن تريهم الصورة الكاملة، والمعاناة المخفية وراء ذلك البالطو الأبيض ووراء كلمة «دكتور» في التعليقات ووراء الامتياز. لهؤلاء نقول ببساطة: «حلوة أسنان، فلوسها حلوة».

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

علامات

تعليم, طب, نفسية
عرض التعليقات
تحميل المزيد