(1)

قد برعت أمريكا في إشعالها الحرائق عبر جهازها الاستخباري (C.I.A) في أنحاء المعمورة، طوال فترة علوها في الأرض بغير الحق وشهودها العالمي – بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها في منتصف القرن الماضي – فهي لم تحل ديارًا إلا وجعلت أعزة أهلها أذلة.

وفي تبادل محكم منها للأدوار بين من يشعل الحريق (البنتاغون) وبين مساعي الإخماد (البيت الأبيض) الموجهة نحو قصد الفشل أو الإفشال؛ فتنطلق أفاعيها في حلتها الدبلوماسية تستحصد ما تنتجه النيران المشتعلة مما تتطلب من حاجة للسلاح والأموال والمواقف، وكل تلك الأمور التي تعرضها الإدارة الأمريكية بما يقابلها أثمان سياسية ومصالح اقتصادية تتم جنايتها من هذه الحروب المسعرة بأذرعها الأمنية.

فهذه الحروب غالبًا ما تُخاض بالوكالة عنها بأدوات مستأجرة، غير قليل منها تتورط فيه أمريكا بالأصالة عن مصالحها، كما شهدنا ذلك في الصومال وفيتنام وأفغانستان والعراق.. وغيرها.

وهكذا كانت دومًا تحرص الإدارة الأمريكية على تعقيد المشكلات الخارجية مع الإمساك بمقاليدها، وذلك على النحو الذي تنتفع هي به، ولم تسعَ جادة في حل أي منها إلا إذا أدركت أن في حلها ما يصب في مصالحها أو أن بقاءها مشتعلة يمكن أن يستفيد منه خصومها على أي نحو.

 

(2)

وهذا ما نراه جليًا في الجولتين المكوكيتين لذراع الإدارة الأمريكية الدبلوماسي (وزارة الخارجية) لوزيرها (جون كيري) في غضون أسابيع قليلة، في إطار المساعي المحمومة لإخماد لهيب النيران التي تشتعل في الأراضي الفلسطينية، وما تشهده الضفة الغربية والقدس من تصاعد مستمر وتزايد مضطرد في مواجهة ممارسات الاحتلال العنصرية، بانتفاضة شعبية تنتشر بسرعة انتشار النار في الهشيم وهي تتدحرج في ثبات على نحو يعمق قوتها ويزيد من قدرتها على الفعل المؤثر.

فإن ما نشهده من تصاعد في مسار الفعل الثوري، والتصعيد في المواجهة مع الاحتلال، لا بد أن يتعزز؛ لما نجده من تكرار مشاهد القتل العمد للمواطنين الفلسطينيين العزل عن سبق إصرار وترصد من  جنود الاحتلال وميليشياته المسلحة (قطعان المستوطنين).

وذلك في تجسيد واضح لإرهاب الدولة الذي تمارسه اللقيطة (إسرائيل)، دون خشية منها من ملاحقات قضائية أو إجراءات عقابية؛ لأنها ترى في كيانها بأنه محصن ضد تلك العناوين المحملة بالمضامين الإنسانية أو الحقوقية، والتي يتم توظيفها جميعًا توظيفًا سياسيًا موجهًا بملاحقة المناوئين لسياسات ومصالح الدول الكبرى.

وما زالت ترى دولة الكيان العبري (إسرائيل) أيضًا في نفسها بأنها تمثل مصلحة راجحة لصالح الدولة الاستعمارية الإمبريالية الكبرى (أمريكا)، وكل من يدور في فلكها من الدول الأوروبية، وما هو مستعمل من أدوات الفعل السياسي من أنظمة قائمة فيما يسمى بـ(العالم الثالث).

 

(3)

فلا غرو أن ينشغل الرجل الأسود (أوباما) في البيت الأبيض بما تتعرض له دولة الكيان (إسرائيل) من ثورة حقيقية في ثوب الانتفاضة الثالثة، يقودها الشعب الفلسطيني المعروف عنه القدرة الفائقة على تسخير كل ما يقع تحت يديه ليجعل منه مادة فعل ثوري يؤذي الاحتلال الغاصب لأرضه لأكثر من ستة عقود ونصف العقد.

نعم، يأتي كيري بعد جولته الأولى التي وضع فيها مهام عمل واضحة فيما سمي بـ”تفاهمات كيري” لعلها تخمد النار المتقدة في حطام الواقع الذي يخلفه الاحتلال، فكان مما حوته تلك الوثيقة؛ حظر الحركة الإسلامية التي يتزعمها الشيخ رائد صلاح، وأوكلت مهمة ذلك لحكومة الاحتلال والذي ترجمته في بحر الأسبوع المنصرف في قرار صدر متعجلًا بصبغة سياسية.

فلم تستطع المؤسسة الأمنية الصهيونية (شاباك) أن تجد له مصوغًا أمنيًا، بل حذرت من تلك الخطوة التي ستنعكس سلبًا على الحالة الأمنية وتخدم حالة الإرباك الذي تعانيه دولة الاحتلال في الداخل (48)؛ لما تتمتع به الحركة الإسلامية من ثقل جماهيري كبير.

وكان كذلك مطلوبًا من جانب حكومة الاحتلال إبقاء الوضع في المسجد الأقصى على ما كان عليه قبل مساعيها الأخيرة الهادفة لتقسيم المسجد الأقصى زمانيًا ومكانيًا، كما وأعطيت حكومة الاحتلال حق الإذن بالدخول والمنع إلى الحرم القدسي الشريف، ليتم رصد كل ذلك من خلال كاميرات تشرف عليها سلطات الاحتلال..

هذا من جملة ما تم التفاهم عليه بين من التقى بهم كيري في جولته السابقة في العاصمة عمان.

 

(4)

وها هو (كيري) يعود بعد شهر من تلك التفاهمات التي لم تغير في واقع الأمر بما يمكن أن يخمد الانتفاضة الشعبية الفلسطينية الثالثة، بل هي في تصاعد في الفعل وقوة أكثر في الأداء.

وفي المقابل عجز واضح من قوات الاحتلال في فرض حالة الأمن أو حتى تثبيت الجبهة الداخلية المتداعية، وكذلك انعدام أثر الوصاية المدعاة على الحرم من العاصمة التي جمعت الأطراف، غير حالة التردي في كل المستويات لسلطة الحكم الذاتي المحدود في رام الله، بعد انعدام مبرر وجودها كحلقة انتقالية تعبر بالشعب الفلسطيني إلى الدولة المنتظرة، وقد غابت الأرض الموعودة في غابات الوحدات الاستيطانية المنتشرة كالسرطان في الضفة الغربية.

نعم، يعود (كيري) ولا يزال المرابطون والمرابطات في صمودهم وثباتهم في كل ساحات المسجد الأقصى لأنهم لم يكونوا يومًا وكل فلسطينيي الداخل المحتل حالة يخلقها قانون احتلالي حتى يرتهنوا في بقائهم لهذا القانون أو من أوجده!

فإذا كانت إدارتك قد أرسلتك يا (كيري) في مهمة إطفاء تتقصد فيها الفشل، فلا بأس أن تبقى في تلك الحلقات الفارغة تدور. وإن كانت إدارتك مهتمة فعلًا لتجد حلًا عادلًا- وما هي كذلك – فإن العناوين التي تتوجه إليها جميعًا خاطئة؛ لأنها ليست لها محل في جملة الفعل الثوري، فهي بلا وزنٍ ولا اعتبار عند الفاعلين الحقيقيين (الثوار) في المسرح.

ولكن كما هو واضح لكل المتابعين، فإن المهام التي تُكلف بها أدوات النصب السياسي لن تكون غير ممارسات احتلالية جديدة، والشعب الفلسطيني تمرَّس على مدار عقود طويلة من الاحتلال على تجاوز هذه الممارسات بقدرة فائقة، والتعامل معها بما تحمله من صنوف مختلفة وأساليب متنوعة.

 

(5)

فالسؤال الرئيس برسم الجواب.. إلى متى ستبقى إدارة البيت الأبيض تتجاهل الحقائق وتتنكر للفاعلين الوطنيين، وفي الوقت الذي تظن أنها في منأى عن النيران التي تشعلها في منطقتنا؟

ولكن ما يجب أن يعيه كل من حل من (نيرون) في البيت الأبيض، أن الثوار الفلسطينيين لا يريدون إلا وطنهم، ولا يريدون إلا العودة إلى ديارهم بعد غربة طويلة عانوها في مخيمات الشتات، في الوقت الذي يقتات بخيراتهم شذاذ الآفاق.

وأن الثائرين الوطنيين سيقتحمون كل العقبات وسيتجاوزون كل العراقيل وهم يواصلون ثورتهم بكل ما تيسر لهم، حتى ينجزوا التحرير الكامل وينهوا آخر احتلال عنصري غارق في تزييف الحقائق.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد