الاعتراض الأول: إذا كان الإنسان صالحًا بطبعه فما حاجة الدين؟
الجواب بكل منطقية وبساطة: الدين لا يعارض الفطرة السليمة، بل يعززها ويهذبها ليغلب الخير فيها ويساعد الإنسان على ديمومة الخيرية.
فالقانون الذي يأمر بالأخلاق واجب التقيّد به. كل ما فيه ثقافة الجمال والجلال يجب أن يسود.
ثم الخير والشر في النفوس كامن، وتغليب الخير أو الشر إنما هو سلوك النفس وتطبيعها وتطويعها على ذلك.
إن النفس المختلة تثير الفوضى في أحكم النُظم وتستطيع النفاذ منه إلى أغراضها الدنيئة، والنفس الكريمة ترقع الفتوق في الأحوال المختلة ويشرق نبلها من داخلها، فتحسن التصرف والمسير وسط الأنواء والأعاصير، فالقاضي النزيه يكمل بعدله نقص القانون الذي يحكم به، والقاضي الجائر يميل عن الحق والعدل بالنصوص المستقيمة.
جعل الله الشرع لضبط النفوس كي لا تميل عن الاستقامة ليكون الإنسان إنسانًا كما أراده الله وفق نهج فيه صلاح عيشه وسعادته يدعم فطرته المستقيمة ويجلي أشعتها ويسير على هديها.
فالإيمان قوة عاصمة عن الدنايا دافعة إلى المكرمات، فالله تعالى عندما يدعو عباده إلى خير أو ينفرهم من شر يجعل ذلك مقتضى الإيمان المستقر في قلوبهم.
فالإيمان القوي يَلدُ الخلق القوي حتمًا، ومرد ضعف الأخلاق إلى ضعف الإيمان.
إن الإيمان والصلاح والأخلاق متلازمة متماسكة بعضها ثمرة وحقيقة الأخرى.
سأل من بُعث ليتمم مكارم الأخلاق أصحابه يومًا: أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم ذاك وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار.
فإذا نمت الرذائل في النفس وفشا ضررها وتفاقم خطرها انسلخ المرء من دينه كما ينسلخ العُريان من ثيابه وأصبح ادعاؤه للإيمان زورًا فما قيمة دين بلا خلق؟ وما معنى الإفساد مع الانتساب لله؟
دينك الشكلي والظاهري من عبادات هو بينك وبين معبودك جل جلاله.
ودينك الذي يراه الناس هو الخير في سلوكك: أن تعامل الخلق كما تحب أن يعاملوك، وأن تحب لغيرك مع تحبه لنفسك، ولا ترضى لغيرك ما لا ترضاه لنفسك من قول أو فعل، فكن لين من غير ضعف قريبًا إلى الناس من غير تملق، طليق الوجه من غير هبل، أبدأ السلام وأحسن الكلام، وأنزل الناس منازلهم ولا تحقرن إنسانًا، ولا تبغض أحدًا من خلق الله لذاته ففيه من روح الحق وهو خلق الله الذي خلقك ولتكن البغضاء على الفعل والقول لا على الذات.
ومن كمال محبة الخالق محبة ما خلق.
كان عليه الصلاة والسلام سمحًا لا يبخل بشيء أبدًا، شجاعًا لا ينكص عن حق أبدًا، عدلًا لا يجور في حكم أبدًا، صدوقًا أمينًا في أطوار حياته كلها، كثير السكوت لا يتكلم في غير حاجة يُعرض عمن تكلم بغير جميل، وكان ضحكه تبسمًا وكلامه فصلًا لا فضول فيه ولا تقصير وكان يحب الطيب والرائحة الحسنة، كان عليه الصلاة والسلام خلقه القرآن ولا أعظم وأعلى ممن أدبه القرآن.
فليشتغل الإنسان بتحصيل ما فقده من صفات الخير وحفظ ما وجده في نفسه. وترك كل شر ورذيلة.
ختامًا نذكر شيئًا من اللطائف: جاء شابّ إلى حكيم فقال له: إن في نفسي ذئبَين يتصارعان، أحدهما يدعوني للخير والآخر للشرّ! فقال الحكيم: سينتصر الذي تُطعمه. هذه وظيفة الإيمان.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست