مرات قليلة أو حتى نادرة تلك التي ينتشي الواحد منا بشيء من هذه الحياة الدنيا.. أما ما يحدث بعدها فواحد من احتمالات بالغة القلة، تفرح بأمر سعادة تنسيك مجرد تذكر اسمك، أو الآلام التي مرت في حياتك من قبل.

وتحسب وتروح تبالغ في التفكير والحسبان ألّا تعب بعدها، وتطوف الروح منك بأبواب سحرية لدى (ألف ليلة وليلة) مفاتيحها، بل أقفالها، تحسب أن فرحك وانتشاءك يدومان بدوام الحياة.

فأنت لقيتَ ـ أخيرًا ـ سر حياتك الذي تبحث عنه منذ كنتَ خبرًا منسيًا في علم الغيب، لا يدري أحد بك ولا يعرف عنك مخلوق شيئًا.

هذه الحالة المزاجية العالية من الفرح والانتشاء إلى أبعد حد تصادفنا قليلًا في دنيانا، رغم شديد حرصنا عليها.

فمثلًا ننتشي لكلمات مدح يعطينا فيها أحدهم ما نستحق، فنشعر أن ذاتنا المنسية في خضم الصراع الدنيوي على المأكل والمشرب والسلع الاستهلاكية ومحاولات إرضاء الأبناء، نشعر أن ذاتنا القلقلة المتعبة من كثرة الجري خلف لقمة العيش أخذت وهدة وجزء من ثانية من راحة وفرح.

وهذا الشعور بأن أحدنا (لمس النجوم بيديه)، بحسب مأمون الشناوي، في أغنية (كل ليلة وكل يوم) للراحلة (أم كلثوم) – رحمهما الله – هذا الشعور الذي طالما تغنى به المغنون وأبدع فيه خيال الشعراء والحالمين منذ وعى الإنسان على نفسه، ومخاطر وشرور المخلوقات من حوله، بخاصة أخيه الإنسان.

وهذا الشعور بالفرح الشديد حتى لكأن نسمة سكرى، مجرد نسمة شديدة عابرة لن تجرح خد أحدنا من بعدها، فضلًا عن المتاعب التي لا تعد ولا تحصى التي جعلت من فيلسوف قديم، لعله سقراط، يقول في سابق العصر والأوان وقبل حتى الميلاد: أحسب أن هذا الكون ما بُنِيَ إلا على سوء الفهم!

بالغ الفيلسوف والمعلم البيزنطي القديم، وهو يرى البشر لا يكادون يفهمون بعضهم البعض، بخاصة النجباء والعباقرة والمبدعون متخطي الحدود البشرية المعروفة من أمثاله، لدقة فهمهم وسلامة ورجاحة عقلهم الفريدة، حتى أن امرأته كانت تقابل نبوغه بسكب الماء المحمل بالقاذروات عليه وعلى أتباعه كلما اجتمعوا أمام بيته ولعلهم كانوا يخافون منها إن دخلوه!

هذا الشعور بأن أحدنا لقي لحظة الراحة الخارقة، فنجا من تقلبات الجو التي يجريها الله تعالى كيف وحيث يشاء، وسلم من ألسنة الناس وترهاتهم وحماقاتهم التي لا حدود لها، لمجرد أن واحدنا حاول وأراد الله أن يجعله مثل ملح الأرض ـ اللهم اجعلنا منهم ـ ناطقًا بالحق محتسبًا لأجله عدم نيل أجر.. ونيل تفاهات وحماقات وفيض من ألسنة قدت وانتزعت من سم الثعابين والحيات.. وشفقة ورحمة المقربين: (وهوه واقع عليك بإيه يعني؟!).

ويقصدون أن كلمة الحق المكلفة هذه الصمت أفضل منها، فلا مَنْ ننصحهم سيستمعون ولا مِنْ حولهم سيكفون عن الملام، ساعتها نتذكر قول الله تعالى، جعلنا الله من المتذكرين لآيه الحكيم الناطقين بالحق: (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ۙ اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ۖ قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) الآية من 164 من سورة الأعراف، مع الفارق بالطبع.

حينما تأخذ صداقة أو محبة على ظمأ جارف بحبة فؤاد أحدنا أو ثمرة قلبه، فيروح يدق بكل ما فيه من قوة وقدرة على ضخ للدماء، مرددًا مع الشاعر الكبير المتألم دائمًا إبراهيم ناجي:

وعلى بابك ألقــي جَعبتــي .. كغــريبٍ آبَ من وادي المحن

فيك كف الله عنى غربتي .. ورسا رحلي على أرض الوطـن

أي أن الشاعر الذي عاش متعبًا يظن أنه وجد إلى الراحة في الدنيا سبيلًا، وأن امرأة تحتوي غربته فلكأنها الوطن فيستريح إلى ما لا نهاية.

لكن الفكرة ما تلبث.. بل سرعان ما تجيء بعد السكرة وراحة الفرحة والانتشاء القليلين.

هذه الحياة ليست تحتوي راحة بمعنى الراحة المطلقة، وإن حرصنا وحرص الفلاسفة والشعراء، بل الحكام والرؤساء والطغاة والملوك، لا بد من شيء ينغص حياة كل إنسان، ولو كان في بروج مشيدة من مرمر وألماس وحرير.

هذا لديه المال والولد وليست لديه الصحة، وذاك وهبه الله الولد والصحة ونزع عنه المال، وثالث يشتهي ابنًا فلا يوهب إلا الإناث، ورابع يحب مَنْ لا يطيق رؤيته .. وخامس يريد الثراء العريض ولا قدرة عقلية لديه ولا فهم، وذلك لديه الفهم والعقل لكنه لا يسلم من ألسنة الناس.

فهل الفرح في هذه الحياة الدنيا محرم على أحدنا من قبل أن يخلق الله الأرض ومن عليها؟!

وهل أن يصل أحدنا إلى بر نجاة وأمان دائمان لا يتعب بعدهما أبدًا يمثل حلمًا ودربًا من خبال وجنون مفرط في التمني؟!

وإلا فهذه الحياة لم ترح حتى الأنبياء والرسل، وسيدهم وسيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، بل إن الناس آذوه أشد ما يكون الإيذاء، فكان يقول في رضا وتسليم بقضاء الله وقدره ورغبة في راحة الجميع والخير العميم لهم وإن حُرمه في الحياة الدنيا:

اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون!

وكان ينام على الحصير الخشن حتى يؤثر في جنبه، ولم يشبع قط من طعام تناوله، أو يجمع بين لونين من ألوان الطعام، وكان يمر الهلال تلو الهلال تلو الهلال دون أن يوقد في بيته نار، ولو لسلق بيضة كما نقول.

وكان أحب أصحابه وأخلائه إليه سيدنا أبو بكر الصديق أو عبد الله بن أبي قحافة، وابنته راوية الحدث الأخير لكن الناس من حوله، صلى الله عليه وسلم، لم يكونا يتركانهما له ليعيش بينهما في المدينة في الصفاء كما يحب، مع أن الرسول العظيم كان يكثر من القول: إني لأخرج لألقى أصحابي بصدر صافٍ، فلا تخبروني عنهم بما يعكر صفوي! أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

وكان صلى الله عليه وسلم، يتحدث عن كل أصحابه، ولكن هناك منهم، وهم خير وأحب الخلق إلى الله، الذي كان يضطر الرسول العظيم للقول: فهل أنتم بتاركي لي صاحبي؟!

وذلك بعد أن يعدد مآثر الصديق عليه..

أو أن يقول للسيدة فاطمة ..ريحانة بيت النبوة، رضي الله عنها: إن كنت تحبينني فأحبي هذه! ويشير للسيدة عائشة، رضي الله عنها، المتدثرة معه في برد أو رداء واحد، وكانت السيدة فاطمة تريد منه وعدًا يخص أمهات المؤمنين الأُخريات.

فما طابت الحياة في النهاية لهؤلاء.. ولا عاشوا فيها في فرح.. فلماذا تطيب لغيرهم أو لنا؟!

(يتبع).

 

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

علامات

فكر
عرض التعليقات
تحميل المزيد