الآن وقد صرنا في عصر ازدواج المعايير، وابتعاد الشعارات عن إرساء المسارات، وتباين ظواهر الألفاظ مع بواطنها، كان لا بد أن نعيد التدقيق في أصول المصطلحات التي تُستخدم كثيرًا في مجتمعاتنا؛ لبيان الصادق في دعوته من الكاذب في ادعائه، وحتى لا يستوي صاحب الرؤية الواضحة مع المختبئ خلف الكلمات الفضفاضة والألفاظ العمومية التي تحتمل آلاف التفسيرات.
وقد وجدت أن «الديمقراطية» من أكثر الألفاظ تهلهلًا، وأشهرها تميعًّا؛ فكل الفصائل في شتى بقاع الأرض أصبحت تعتمد الديمقراطية شعارًا لها، دون أن نعرف أي ديمقراطية يقصدونها، وما الديمقراطية من وجهة نظرهم؟
إن جميع الأحزاب والفصائل والجماعات قد هرعت منذ سنوات لغناء أناشيد الحرية وتبني لفظة الديمقراطية، وكان ذلك بعد أن عجزوا عن تحقيق الأهداف بالشعارات القديمة، التي تكشف عن أصوليتهم، فبعدما كان الإسلام السياسي – وهو أكبر مثال- لا ينفك عن تكفير الديمقراطية وعدها بدعة غربية، تحول الأمر ظاهريًّا واعترفوا بها أخيرًا، أو أُجبروا على الاعتراف بها لنكون أكثر وضوحًا، فلا تكاد تتكلم مع فرد منهم إلا ويذكر لك الديمقراطية ألف مرة في نقاشه، ليدفع عن نفسه التهم المنسوبة لمنهجه من أصولية وشمولية أو غيرهما.
ومن هنا تتضح معالم تلك المعضلة التي تتطلب منا التمحيص، هل حقًّا الإسلام السياسي تغير واعترف بالديمقراطية إيمانًا ويقينًا؟ أم أنها خدعة لدفع الشبهات عنه وإعادة كسب الشباب من حوله؟ وهل إيمانهم بالديمقراطية إيمان صادق أم تورع كاذب؟ ولست أتحدث هنا عن الإسلام السياسي وحده، بل تشير أصابع الاتهام نحو الفكر الاشتراكي أيضًا، والأصولية العلمانية، وكل الأيديولوجيات التي لديها مشكلات في أدبياتها، ولم تجر لها جراحةً حتى الآن.
ما الديمقراطية التي أصبحوا يؤمنون بها فجأة هكذا ودون إجراء أي تغير في القيادات أو الأدبيات؟ هذا التبني لكلمة الديمقراطية أصبح عشوائيًّا، يستوجب الشك في صدقهم؛ ولذلك فلم أدخر جهدًا أن أجريت نقاشات عديدة مع شخصيات مختلفة داخل الجماعة الواحدة، وبين الأحزاب المختلفة التوجه، فوجدت ألف نوع للديمقراطية في مجتمعنا، لكنها كلها ضمن ديمقراطيات الحد الأدنى.
الآن عرفت ما هي الديمقراطية التي يؤمن بها المجتمع كله، إنها الحد الأدنى من الديمقراطية فقط، وإن شئت فقل «الديمقراطية السطحية»، كل فريق يتبنى مبدأ واحدًا من مبادئ الديمقراطية، ويعتقد بذلك أنه من فرسانها الأخيار، وهذه هي الكارثة، ولذلك كان لزامًا علينا أن نوضح حقيقة الديمقراطية المفترى عليها؛ لأن الأمر لو ترك هكذا عبثًا لن يكون هناك حق ولا باطل، بل حق مائع، وباطل متجمل.
ولكي تقترب الصورة للأذهان، سنضرب مثالًا، ما رأيكم لو استدعينا أربعة أشخاص، ووضعنا كتابًا على مسافة بعيدة منهم، وطلبنا من كل واحد أن يصف ما يراه، فإذا قال الأول إنه كشكول، ورآه الثاني ورقة، والثالث قال إنه مجلد، والرابع وصفه كجلد أسود، هل نستطيع أن نجزم بأنهم أخطأوا الوصف تمامًا؟
بالطبع لا؛ فالحقيقة أن كل هذه الأوصاف قريبة من وصف الكتاب، وكلهم ذكروا المواد الأولية التي تدخل في تكوينه، والتي تراءت لهم مختلفةً حسب قوة النظر والتدقيق.
لكن في الوقت ذاته، هل نستطيع أن نعد هذه الآراء وصفًا دقيقًا شاملًا لحقيقة هذا الموصوف؟ لا يمكن ذلك أبدًا، فهو كتاب، وله عنوان محدد لم يبصره أي واحد منهم.
وهكذا هي الديمقراطية، مكونة من عدة أساسات ومبادئ، إذا أخذ كل فريق أساسًا واحدًا منها، دون أن يبصر حقيقتها الكلية، فإنه يضفي على نفسه أو حزبه صفة الديمقراطية شكلًا وليس مضمونًا، ادعاءً لا حقيقةً، فالديمقراطية كتاب متكامل، إذا فُقد أحد أجزاؤه صار منقوص المعنى ومنزوع المحتوى؛ ولذا فلا بد أن نناقش تعريف الديمقراطية، وقبل ذلك نستعرض بعض الأوصاف التي يعتقد أصحابها بأنها تمثل الديمقراطية كلها.
البعض قال إنها «الشورى»، والآخر يدعي بأنها «الصندوق»، وآخرون قالوا «العدل» و«الحرية»، أو كما يقال «حكم الأغلبية»، وكل فريق اكتفى بذكر صفة واحدة للديمقراطية، وحصر الأيديولوجية كلها بداخل هذه الصفة، وللأسف فإن هذه الأوصاف كلها من العموميات التي يمكن تحويرها بسهولة، إذا لم تكن فلسفتها واضحةً أمام الناس، وذات معالم راسخة.
وهنا آثرت أن أفرق في تعريف الديمقراطية بين الحد الأدنى الإجرائي للديمقراطية، وبين التعريفات المضمونية لها، أما عن الحد الأدنى فيقصد به الديمقراطية التي تعد الانتخابات التنافسية الحرة النزيهة هي الشرط الوحيد لقيامها، ونضيف على ذلك التعريف بأنها الديمقراطية التي تقوم على صياغة فلسفية ناقصة، تعترف بجزء من لوازم الديمقراطية، وتنكر الآخر حسب أهوائها، فتتحقق قشور الديمقراطية ويغيب جوهرها، وعادة ما تكون هذه الديمقراطية مؤقتة وسريعة الزوال.
أما الديمقراطية المضمونية substance_based أو الكلية، فهي التي تشترط لقيامها توفر جملة من الحقوق السياسية والمدنية، التي جرى تطويرها في إطار الفلسفة الليبرالية، أو ما يعرف بالديمقراطية الليبرالية.
وخلاصة القول إن الديمقراطية ليست لفظًا هائمًا يعني شيئًا جميلًا أو يمثل أحلام اليقظة، وليست باللفظ العشوائي الذي يقال في المحافل ليصفق الناس عليه، وليست منهجًا مستقلًا بذاته نسير عليه، بل هي نتاج عدة سياسات وفلسفات حتمية الوجود لكي تتحقق الديمقراطية، هذه الجملة من الحقوق تشتمل على الحرية بفلسفتها الصحيحة، والمساواة، والمواطنة، والعدل، والمدنية بشكلها الأصيل، وبصياغة أخرى، فالديمقراطية وهم لا وجود له إذا لم تتبن الفلسفة الليبرالية وتستند عليها، وإذا لم تعترف بالعلمانية بمعناها الجزئي غير الأصولي وتشرع في تطبيقها، ربما يتطلب المقال أن أوضح بالتفصيل جملة هذه القواعد الضرورية لحدوث الديمقراطية، وأن أتكلم عن فلسفة الحرية، ومعنى المساواة وحقيقة المواطنة، لكن المقال لم يتسع لهذه التشعبات، ومن الأفضل أن نرجئها لمقالات أخرى قادمة.
وخلاصة هذا الطرح، أن كل فريق يلوي عنق الديمقراطية بالشكل الذي يريدها عليه، لتناسب أهدافه، وتتماشى مع معتقداته، لكن لا أحد يبين لنا فلسفته الكاملة التي يسميها ديمقراطية، وإذا سألت أي فريق عدة أسئلة تجده أبعد ما يكون عن معناها، فإما أن يخلط السياسة بالدين، وإما يتبنى فلسفة مشوهة، فتراه يؤمن بالحرية اسمًا، ويعترف بالمدنية شكلًا، ولا علاقة لمنهجه بالديمقراطية من قريب ولا من بعيد.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست