ضمن سلسلة (اعادة بناء الافكار)

العالم الجديد وبنو عثمان والشورى.. (كيف ولماذا؟)

كيف لم يصبح لنا موضع قدم في العالم الجديد ولماذا؟

كيف تكتشف ثلاث قارات جديدة ونحن في نوم عميق؟ فمن المسئول عن عدم نشر الإسلام بهذه المجاهيل وعدم استيطانها وحماية سكانها من الإبادة؟

من المظالم التي تسببت بها الدولة العثمانية أنها حرمتنا بأن يكون لنا موضع قدم في العالم الجديد، فقد بدأت الاكتشافات الجغرافية والطرق الجديدة في وقت كانت الدولة العثمانية دولة عظمى في عهد بايزيد وسليم الأول وسليمان القانوني، ولكن العجيب أن تجد دولة مثل البرتغال التي لا تتجاوز مساحتها ٩٢ ألف كيلومتر مربع لا تكل ولا تمل في التعدي على العالم الإسلامي شرقًا وغربًا وجنوبًا، إضافة إلى تدمير الاقتصاد المصري من خلال محاولات اكتشاف طرق جديدة لمنع وصول منتجات الشرق إلى أوروبا دون أن تمر بمصر وبالفعل استطاع فاسكو دي جاما من اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح عام 1497م مما كان له الأثر البالغ على الدولة المملوكية، فيقول البوكرك (أننا لو انتزعنا تجارة ملقا هذه من أيديهم – يقصد المسلمين – لأصبحت القاهرة ومكة أثرًا بعد عين، ولامتنعت عن البندقية كل تجارة التوابل ما لم يذهب تجارها إلى البرتغال لشرائها من هناك) لم تكتف البرتغال بذلك، ولكن استمر التعدي والسيطرة على بحر العرب والخليج والبحر الأحمر والسيطرة على مضيقي باب المندب وهرمز والتضيق على المسلمين حيث كانوا، وإقامة القواعد العسكرية حتى وصل الأمر إلى محاولات الاعتداء على مكة ومحاولات سرقة جثمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون رهينه لديهم مقابل تسليم القدس، فيقول البوكرك في يومياته (كان هدفنا الوصول إلى الأماكن المقدسة للمسلمين واقتحام المسجد النبوي وأخذ رفاة النبي محمد رهينة لنساوم عليها العرب من أجل استرداد القدس).

ورغم ضعف المماليك السياسي والاقتصادي تصدوا إلى هذه المحاولات، إضافة إلى دور البرتغال والإسبان في إسقاط الأندلس وقتل وتنصير المسلمين بها واكتشاف العالم الجديد وقتل سكانه واستيطانه وإقامة المستعمرات، فهل يعقل بدولة بهذا الحجم أن تفعل كل هذه الجرائم، وهي دولة واحدة من تحالف صليبي، وهل يعقل أن ينشغل المسلمون بغير هذه الدولة وبغير هذا التحالف الصليبي، فأي فعل غير هذا يعد خيانة لله ولرسوله ولكن ما حدث أننا وجدنا قوات العثمانيين في عهد بايزيد وسليم الأول تهاجم أراضي المسلمين (أراضي الدولة المملوكية) وتقاتلهم حيث كانوا في الشام ومصر، فمن يسأل أمام الله عن انشغال المماليك عن قتال البرتغال للدفاع عن أرضهم وطرق التجارة نتيجة الاعتداء عليهم من قبل قوات بايزيد على الحدود الشمالية للدولة المملوكية، ثم بعد ذلك قوات سليم الأول تكمل الأمر بإسقاط دولة مسلمة كان لها ثقل عسكري في الشرق الأوسط، هل الحق هو مقاتلة الدولة المملوكية في وقت يقتل فيه مسلمو الأندلس، هل غزو أراضي المسلمين هو الحق أم الدفاع عنهم، ومن يسأل عن هذه الدماء التي سالت في كل المعارك التي دارت بين المماليك والعثمانيين في الشام وفلسطين ومصر؟

يذكر كتاب (العثمانيون في التاريخ والحضارة) أمرًا عجيبًا (إن سليما الأول كان يبكي في مسجد الصخرة بالقدس بكاء حارا وصلي صلاة الحاجة داعيا الله أن يفتح عليه مصر) أعجب من هؤلاء فهل ديار الإسلام تفتح مرتين والإسلام يعلوها، والمؤرخون في هذا إما مبررون وإما ساكتون، فنجد كثيرًا من المؤرخين والعلماء يبررون لغزو مصر وحجتهم أن المماليك قد ظلموا الرعية وعطلوا الشريعة ومن أجل جمع كلمة المسلمين، ولكن تجد العلماء أنفسهم الآن يطالبون بالصبر على الظالمين وإن درء المفسدة مقدم على جلب المنفعة رغم المظالم المنتشرة وتعطيل الشريعة أيضًا.

لماذا التفرقة بين الواقع والتاريخ؟ هل الأحكام الشرعية تتغير أم أن الكلام في ما مضي أهون من الكلام في الحاضر؟

وهل منع هدايا الهند من وصولها للعثمانيين والوقوف على الحياد من قتال الصفويين أمر يستدعي قتال وغزو أرض المسلمين؟

ما لكم كيف تحكمون؟

وهل يجوز قتال المسلمين من أجل توحيدهم، وإذا افترضنا بجواز هذه القاعدة ، فهل فعل هؤلاء الملوك ذلك من أجل الوحدة وجمع الكلمة كما يصدعوننا المؤرخون وبعض الفقهاء، أم أن هدفهم الزهو والملك والشهوة والشهرة، والتاريخ يشهد بقصورهم وملكهم وجواريهم وتوارثهم للسلطة والبذخ والاستئثار بالسلطة وعلو النعرات العرقية والقومية.

فيجب التفرقة بين أن تكون هناك أرض موحدة ويريد أحدهم الخروج على الجماعة وتقسيم الأمة فهذا يجب منعه، كمن يريد بأن يستقل بإقليم عن الدولة، وفرق بين أن تكون هناك دول متفرقة يسعى طائش باسم الله واسم جمع كلمة المسلمين والوحدة ليسمح لنفسه بأن يضع السيف في المسلمين.

إن غلق باب الاجتهاد لأكثر من 1000 عام كان وبالًا على الأمة الإسلامية، فتقدم غيرنا في شتى المجالات ونحن لم نتغير، وكأن الزمن توقف بنا لأننا نسير على فقه لم يجدد وبه قصور شديد لا أقول في هذا الزمان بل به قصور منذ ولادته الأولى، وأن ما اقصده بالفقه هنا هو ما يتعلق بنظام الحكم في الإسلام، فهذا الباب به قصور شديد، فالكثير يعتقد أن هناك نظام حكم إسلامي يجب الالتزام به، فهناك فرق كبير بين نظام حكم إسلامي وبين نظام حكم لا يخالف شرائع الإسلام والفرق بين المقولتين كما ما بين السماء والأرض.

ولا يعتقد متحاذق أنني من رواد مدرسة علي عبد الرازق فإني أبرأ إلى الله منه ومن كتابه!

ولكن المشكلة أننا بين فريقين (أحدهما كاره للدين ويرى أنه يجب أن يفصل عن إدارة الدولة وفريق آخر ما زال يحدثني عن بيت المال والدواوين ونظم إدارة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعمر بن عبد العزيز رغم أن جزء من هذه النظم كان مكتسبًا من الحضارات الأخرى وليس إسلاميًا أو عربيًا).

ومن المفارقة أننا نجد أن تداول السلطة وانتقالها في عهد الخلفاء الراشدين يختلف من خليفة إلى آخر فانتقال السلطة لأبي بكر يختلف عن انتقالها لعمر عن انتقالها لعثمان رضي الله عنهم جميعًا، فكيف يأتي أحد ليرسم لنا نموذج إسلامي في نظام الحكم وينسب لله ما لم يأمر به وكيف ينسب للإسلام أنه أباح الدماء لجمع كلمة المسلمين تحت حاكم واحد، وتناسوا القضية الكبرى وهي ما أحقية هذا الحاكم بالحكم وكيف أتي هذا الحاكم وكيف تم الافتيات على إرادة الشعب.

فإن أكبر طعنة طعن بها الإسلام هو تهميش الأمة وعدم مشاركتها في إدارة شئون الحكم، وعدم إلزامية الشورى والتوريث والتأصيل له وفقه الحاكم المتغلب والتأصيل له.

فإن أكبر حام للإسلام ليس الخليفة كما يقولون بل هي إرادة الأمة، فهل احتمالية أن تضل أمة بأكملها أكبر أم احتمالية أن يضل شخص واحد وهو الحاكم، ولكن ظل كثير من أهل العلم يؤصلون لنا أن الشعوب غثاء وهم الدهماء لا رأي لهم بل وبأحقية الحاكم في المكث في الحكم حتى الوفاة ويصدرون هذه الآراء على أنها من الإسلام.

لماذا ما زلنا مصرين أن نبدأ من حيث انتهينا، ولماذا نرفض أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون، لماذا نرفض أن نختصر الزمن اختصارًا ونتجاهل تجارب الآخرين، ولماذا كل ما جاء من الغرب فتنة وبدعة ولماذا لا نأخذ ما يناسب ديننا، فإن الإسلام وضع الضوابط العامة التي يجب ألا تخالف، أما تولية الحاكم ومدته وعزله والرقابة عليه وكيفية إدارة الدولة والرقابة على المال العام وتنظيم الأشغال العامة وتحقيق العدالة الاجتماعية وسن القوانين كلها قواعد ترك لنا الإسلام حرية تنظيمها على ألا تخالف قواعد الإسلام.

لماذا لا يزال جزء من التيار السلفي وغيرهم بشكل عام يريدون أن نؤسس نظام حكم على نظم الإدارة القديمة وينسبونها للإسلام، فلماذا ما زال هناك من يحرم كل شيء وهو مستغرق في الماضي لا أقول الشريعة بل التاريخ وتجده معرضًا عن كل ما هو مستحدث، هذا ليس نقدًا قائمًا على الهوى، بل هي أفكار مسيطرة على شباب الصحوة الإسلامية لأنها موجودة في أمهات الكتب، بل هذه كانت الأفكار التي دافع عنها في يوم من الأيام، للأسف لم يكن لها علاقة بالإسلام.

هل جمع المسلمين في نظام فدرالي حرام شرعًا؟ هل جمعهم في نظام اتحادي خير أم قتال المسلمين بعضهم بعضًا تحت كذبة توحيدهم وإدخالهم في طاعة ولي الأمر الذي لا نعرف بأي حق اكتسب هذه الولاية ولا نعرف قدراته التي استحق الإمارة عليها، فالأمر كله باطل على باطل، يريدون تطبيق قاعدة ما أنزل الله بها من سلطان لأمير مغتصب السلطة إما بالتغلب أو بالتوريث.

هل كل الديمقراطية حرام كما علمونا أم يمكن الانتفاع بما قدمة الآخرون في أصول النظم السياسية؟ هل هناك صعوبة أن نضع مواد فوق دستورية لا يستفتى عليها، وهي المتعلقة بأحكام الله وما دون ذلك يتاح للأمة حق الاختيار والتصويت والرقابة والبت في المعاهدات وإعلان الحرب والقرارات المصيرية، هل رأى العامة ضلال كما علمونا أم أن العامة نصروا الحق في كل موضع طلب منهم ذلك، هل المرأة لا يحق لها المشاركة في إدارة شئون الدولة كما علمونا، أم لها كل الحق في ذلك دون الولاية الكبرى، هل وضعها في آخر القوائم الانتخابية موافق لدين الله أم أنه من عند أنفسنا.

هل الرجوع للشعب خير أم اللجوء لأهل الحل والعقد الذين لا نعرف من هم ومن يحق له اختيارهم في هذا الزمان، فإن كان الرئيس فمن له الحق في اختيار الرئيس لنعود إلى نقطة البداية وندور في حلقة مفرغة.

لماذا نرسخ للديكتاتورية والاستبداد، هل لو رجع صدام لرأي الشعب ونزل عليه قبل غزو الكويت هل كان يمضي في هذا القرار الذي دمر أمة من أعظم الأمم وتسبب في مقتل 1.9 مليون عراقي حتى 2003م ليصل العدد إلى 3 مليون عراقي خلال عقدين، ولم يضف إليهم ضحايا معارك تنظيم الدولة والتحالف الدولي، هل لو رجع الملا عمر إلى الشعب الأفغاني في تسليم أسامة بن لادن للأمريكان، هل كان يصل الأمر إلى مقتل 3 مليون مسلم لا يقل عن 900 ألف منهم من الأطفال والنساء ثم يضاف إليهم 2 مليون قتيل نتيجة الأمراض والأوبئة ليصل العدد إجمالًا إلى 5 مليون مسلم، من يسأل عن هذا بخلاف الطواغيت والحكام المستبدين سوى الفقهاء الذي رسخوا فكرة عدم إلزامية الشورى وأنه لا رأي للشعب وأن الحاكم له أن يتفرد بالحكم، كل هذه الأفكار العفنة متأصلة في كتبنا، أن الفردية التي سيطرت على شعوبنا وأن فقهنا الذي لم يجدد لقرون عدة كان السبب في ذلك، فإن علماء السلفية يعتبرون عدم تسليم الملا عمر لأسامة بن لادن من أعظم القرارات التي اتخذها حاكم مسلم، رغم رفض كثير من الشعب الأفغاني وعلمائه بقاء أسامة والمطالبة بتسليمه، بل والأعجب أن الملا عمر كان غير راضيًا عن أحداث ١١ سبتمبر، ورغم ذلك لم يسلمه لضيق الأفق وعدم الفقه وعدم المعرفة بالمصالح والمفاسد ليتسبب في مقتل ٥ مليون مسلم، كل ذلك لأنه لم يعتد برأي الأمة وتفرد بالقرار.

إن أطول حضارة عرفها التاريخ هي الحضارة البريطانية لأنها أعرق ديمقراطية عرفها التاريخ فقد وجدت سبيلها في كيفية مراقبة الملك وتهميشه ومحاسبته وفي كيفية الرقابة على المال العام، إن الشعب هو صمام الأمان الوحيد، ولكن تكريس الاستبداد عند المسلمين هو النفق المظلم الذي دخلناه منذ قرون عدة تحت مسمى، أنه لا رأي للعامة وأن الشورى ليست إلزامية والتبرير للحاكم المتغلب والتوريث والتمسك بنظم الحكم القديمة ورفض أي تجديد والتسطير لحقب مظلمة على أنها أزهى العصور التي يا ليتنا عدنا إليها.

لماذا نظل نتمسك بفقه الكثرة يصاحبها الضلال ونحرف آيات الرحمن فظللت أظن أن الكثرة مذمومة في كتاب الله لأنهم علموني ذلك وعليه أقاموا أفكارهم أن الشورى ليست إلزامية وأن حكم الشعب ضلال والأكثرية مذمومة، فقد بحثت أكثر من 36 آية في كتاب الله تذم الأكثرية فما وجدت آية تذم الأكثرية إلا وكانت على الكافرين أو آيات لا تتعلق بعموم المؤمنين، لماذا تجتزئ الآيات من سياقها العام؟ فلا تجتمع هذه الأمة على ضلالة، هكذا أخبر رسول الله صلي الله عليه وسلم حينما قال (إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة ويد الله مع الجماعة).

وعجبت كل العجب عندما تم تأويل الحديث بأن المقصود منه هم جماعة علماء الأمة وليس المقصود عموم الأمة، أي صرف هذا للكلام عن ظاهرة، فلا يصرف الكلام عن ظاهرة إلا بدليل، ولماذا نزل رسول الله على رأي الشورى في أحد والأحزاب هذا أكبر دليل على أن إجماع الأمة ليس بضلال، وإلا لما نزل عليه النبي، وإن خالف رأي الأغلبية الأولي وهو رأي رسول الله، ولكنه خلاف في التفاضل لا يأتي بضلال كما يدعون.

قال الله تعالى: (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا).

(قال شيخنا: ابن كثير وابن عثيمين أن في هذه الآية دلالة على عصمة إجماع الأمة).

فكيف نلقي برأي الأمة ونقدم عليه رأي شخص واحد مهما كانت رجاحته، فكيف يصيب شخص وتخطئ أمة، وهذا بخلاف ما علمنا إياه رسول الله بالنزول على رأي الشورى رغم أن رسول الله أرجح عقلًا من الأمة كلها، فإن كانت حجتهم أن رسول الله لم ينزل على رأي الشورى في الحديبية وعند النظر في أحداث الحديبية نجد أن النبي التزم بالشورى ولا مجال لقولهم هذا.

فعندما خرج النبي لأداء العمرة فجاءه عتبه الخزاعي يخبره بأن قريشًا جمعت له الجموع وأنهم سيقاتلونه.

فقال النبي أشيروا على أيها الناس ثم عرض عليهم إما قتالهم وقتال من عوانهم أو قتالهم فقط عند اعتراضهم إياه، فجاءت المشورة بترجيح الرأي الثاني، لينزل النبي على أمر الشورى ويقول (امضوا باسم الله).

فهنا عندما كان الأمر بشريًا نزل النبي على رأي الشورى ولكن عندما تحول كما سيأتي إلى وحي فلا مجال لرأي أحد إذا فهو أمر من الله.

فتغيرت الأحداث فبينما رسول الله على ناقته القصواء يتقدم الركب ويستعد لما يتكشف له الغيب ولو كان قتالًا إذا منعته قريش- إذا بالناقة تبرك، فيحاول الصحابة على إرغامها على استئناف السير فأبت وتوقفت، قالوا خلأت القصواء أي عجزت فقال النبي (ما خلأت القصواء وما ذلك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل، والذي نفسي بيده لا تدعوني قريش إلى خطة يعظمون فيها حرمات الله وفيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها) ثم زجرها فوثبت.

وهنا كان التحول ليخرج الأمر من حدود الشورى العامة ورأي الناس إلى الوحي، فلا رأي ولا اجتهاد مع الوحي، لأن الله هو من منع النبي ومنع الناقة من المسير ليبدأ الرسول في التعامل مع الأمر بالوحي الذي يلهمه الله إياه.

فليس في الحديبية أي دليل على عدم إلزامية الشوري بل أن النبي التزم بالشورى في أول الأمر حتى جاء وحي من الله ليخرج الأمر عن الرأي والمشورة، فلا يفهم لذلك إلا شخص لم يفقه السيرة جيدًا أو شخص من صناع الفراعين.

وإذا رجعنا لنقطة البداية لقد كان انشغال بني عثمان بقتال المماليك في وقت تهاجم الجيوش الصليبية أغلب ديار الإسلام وتقتلع الإسلام من الأندلس هو ذروة الفجور والطغيان وعدم خدمة الإسلام فلماذا أهمل المؤرخين والعلماء هذه الفكرة.

لنعود لقتال المسلمين بعضهم في عهد بايزيد ثم يكمل الأمر سليم الأول لتتواجه الدولتين في معركة (مرج دابق) التي تحطم فيها الجيش المصري لتسقط الشام ثم تسقط فلسطين ثم تسقط مصر وتسقط معها الدولة المملوكية، بسعي العثمانيين ببث الخيانة في جيوش المماليك، وكأني أقرأ عن معارك بين المسلمين والصليبيين، ولكن الخزي أنها كانت بين المسلمين وبعضهم، والأعجب أن معظم المؤرخين يبررون لهذه الخيانات ولهذا الغزو، والأعجب منه أن أغلبهم ذات طابع سلفي، فلكي يثبتوا أن غزو العثمانيين ليس احتلالًا يبررون كل أفعالهم ليفتقدوا إلى الحرفية والمهنية والإنصاف العلمي والشرعي.

لقد خان جيش الشام دولتهم وخان قائدهم خائر بيك السلطان قنصوه الغوري والتحقت جيوش الشام بالجيش العثماني، إنه الخزي يتجلى في تاريخنا، فلم أجد من المبررات التي إن صدقتها جميعًا ما يبرر غزو أرض المماليك، فكلها حجج واهية أربأ بمن يقدمها مبررًا لغزو أرض مصر، فهل لو صدق أن قنصوه الغوري منع هدايا الهند أن تصل لسليم الأول كافيًا لقتل عشرات الآلاف من المسلمين، هل عدم تعاون قنصوه الغوري مع سليم الأول في قتال الصفويين مبررًا لقتل المسلمين واستباحة أرضهم وقتل عشرات الآلاف وتدمير ثاني أقوى اقتصاد في الشرق الأوسط، فهل لو وجهت نصف هذه القوة لقتال البرتغال أكان أولى للدفاع عن مسلمي الأندلس، هل حقا خان العثمانيون الجهاد في أوروبا بتوجههم نحو ديار الإسلام؟ هل أرض الإسلام تفتح مرتين، لماذا سبقتنا أوروبا بنظم التحالفات قديمًا وحديثًا، لم نعرف سوى الاقتتال والسيطرة والخيانة باسم الخلافة والشريعة، لماذا سبقتنا أوروبا بنظم الحكم المختلفة التي تصون إرادة الأمة وتكبل نزوات وشهوات وأطماع الملوك، هل لو تم التحالف بين القوتين المملوكية والعثمانية أكان خيرًا للإسلام أم سفك دماء المسلمين؟

قال رسول الله صلي الله عليه وسلم (لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ وَأَهْلَ الأَرْضِ اشْتَرَكُوا فِي دَمِ مُؤْمِنٍ ؛ لأَكَبَّهُمُ اللَّهُ فِي النَّارِ).

يقول سليم الأول بعد دخوله القاهرة وانتصاره في معركة الريدانية (وهي بجوار العباسية الآن) 1587م وبعد قتل آخر سلاطين المماليك الأشرف طومان باي بالخيانة أيضًا (إنه بعون الله تعالى قتلنا جميع الچراكسة ومن انضم إليهم من العربان وجعلنا دماءهم مسفوحة وأبدانهم مطروحة وصارت إلى الهوان).

ذكر ذلك في كتاب ابن طولون (مفاكهة الخلان في حوادث الزمان)

لقد كان دخول مصر دمويًا

يقول ابن أياس في كتاب بدائع الزهور في وقائع الدهور (إن عدد القتلى في القاهرة فقط وصل إلى ٥٠ ألف).

وذكر في أخلاق الترك الكثير منها (أن أحد القضاة لم يجز لأحد العثمانية الزواج من امرأة لم تنقض عدتها، فاشتكاه فأحضر ذلك القاضي ولم يقبل له عذرًا وبطح وضرب ضربًا مبرحًا، ثم كشف رأسه وألبسه عليها كرشًا من كروش البقر بروثه وأركبه على حمار مقلوب وأشهره في القاهرة، وكان قبل ذلك نادى السلطان في القاهرة بأن أحدًا من قضاة مصر لا يعقد عقدًا لعثماني).

وقد وصف ابن إياس أخلاقهم (قلة دين يجاهرون بشرب الخمور في الأسواق بين الناس، ولما جاء عليهم شهر رمضان فكان غالبهم لا يصوم ولا يصلي في الجوامع ولا صلاة الجمعة إلا قليلًا منهم، ولم يكن عندهم أدب ولا حشمة).

وذكر عن سليم الأول وحاشيته في موضع آخر (إن ابن عثمان احتجب عن الناس ولم يظهر لأحد وحكم بين الناس، ينصف الظالم من المظلوم، بل كان يحدث منه ومن وزرائه كل يوم مظلمة من قتل وأخذ أموال الناس بغير حق، ولأنه كان يشاع العدل الزائد عن ولاد ابن عثمان وهم في بلادهم قبل أن يدخل سليم شاه لمصر، فلم يظهر لهذا الكلام نتيجة).

ولأن نظام الحكم مختلط بالدين ذهب سليم الأول فأخذ معه آخر خلفاء بني العباس في القاهرة المتوكل على الله وأجبره على التنازل عن حقوق الخلافة له، فلا هذا خليفة ولا بهذا تكتسب الخلافة ولا تعطي الخلافة قداسة لأحد في دين الله، فهذا جهد الجاهل.

ونحن هنا لا نسعى لترسيخ فكر قومي بغيض ولا ندافع عن أحد ونهاجم أحدًا، هذا ليس محل مقالنا وليس محورة ولا مجال للدفاع عن المماليك فكان عصرهم به مظالم وبطش بالرعية ولكن مدح العثمانيين بشكل فج وبث مغالطات تاريخية دفعني لإظهار العبث المنتشر في الكتب ومنصات التواصل الاجتماعي، فقد وصل الأمر بأحد الشباب الذين خدعوا بتدليس التاريخ وعدم فقه وفهم الإسلام بحق بأن قال أحدهم ( اللهم ارض عن سادتنا بني عثمان).

إن هدفنا من المقال هو تسليط الضوء على عصور مظلمة يظن المنخدعين أنها عصور مشرقة بل ويتمنون أن تعود هذه الأيام، فإنهم يروا الهزيمة نصرًا والخزي شرف والخيانة اضطرار، وأنه لا مجال لعدد القتلى في حساباتهم، بل يرون أن زماننا هذا هو أسوأ مراحل الإسلام رغم أنه زمن الخروج من النفق المظلم فهو عصر المقاومة والتنوير الذي سيعقبه التمكين.

وبالعودة للفكرة الأولى فعندما تستطيع دولة مثل البرتغال لا تتعدى مساحتها 92 ألف كيلو وإسبانيا ٥00 ألف كيلو وإنجلترا 242 كيلو وفرنسا 643 كيلو أن يسيطروا على العالم الجديد بأكمله من أمريكا الشمالية والجنوبية وأستراليا ومجاهيل أفريقيا والجزر في البحار والمحيطات ومستعمراتهم في آسيا وأفريقيا، وليس للمسلمين سنتيمتر في كل هذا العالم، فإن هذا الأمر يحتاج إلى وقفة وإعادة الحسابات من جديد، هل كانت عصورًا ذهبية كما يقولون أم أنها نماذج من الخداع الناصري، وليس القصد أن نسلب سكان العالم الجديد أن رضهم لأن أغلب هذه الأرض كانت فضاء لم يسكنها أحد من قبل ويمكن مشاطرتهم فيها، ألم يكن من واجبنا أن ننقذ أرواح 112مليون هندي في الشمال الأمريكي فقط من القتل على يد الأوروبيين، إضافة إلى ملايين القتلى في الجنوب الأمريكي وأستراليا ومجاهيل أفريقيا، أليس كان من واجبنا أن نعرفهم برسالة ربهم ونصون أرواحهم وأعراضهم.

صحيح لقد كان لنا السبق على البرتغاليين والإسبان في الوصول إلى العالم الجديد ونتغنى بذلك في كتبنا وفي محاضراتنا ولكن هذا محل معرة وليس منقبة وفخرًا.

لقد أضعنا عالم تقدر مساحة 51 مليون كيلو متر مربع.

ولكن عندما يتحرك الطمع نحو ديار الإسلام وقتال أهلها من قبل مسلمين وترك كل هذه الأرض فهو أمر يحتاج إلى وقفة.

هل كان الحاضر سيختلف إن لم تحدث معركة مرج دابق والريدانية ؟ هل لو تحالفت القوتين وأنقذت مسلمي الأندلس هل كان الحاضر سيكون مختلفًا؟ هل لو أسس المسلمون دولًا عادلة في العالم الجديد هل كان سيكسبنا مكانة أفضل في الحاضر إن لم نكن مسيطرين سيطرة تامة على العالم؟ هل عوامل الضعف والوهن أصابت الأمة كما يعتقد البعض بعد الحرب العالمية الأولى أم انها تعود لقرون نتيجة تهميش الشعوب والانفراد بالسلطة كما أوضحنا.

لم يكن التاريخ كافيًا ليتحرك العلماء لتنقيح الفقه مما فيه وإدراك الخلل، حتى جاءت ثورات الربيع العربي وكانت القاصمة لأفكار علماء السلفية الجهادية وقطاع كبير من علماء وطلبة السلفية، فلم يصبح لهم مخرج ولا تبرير ولا تأويل، فقد اكتشفوا أن العوام ليسوا بهذه الحقارة وكيف أنهم غيروا المشهد، وكيف كان تصويتهم منصفًا للحق وللدين رغم كل حملات التضليل والتشوية، فلم يكن اجتماعهم ضلالة، فليس هناك حاميًا للحق والدين سوى الجماعة المسلمة المتمثلة في الأمة وليس في فئة أهل الحل والعقد الذين لا نعرف كيف نختارهم ومن لهم الحق في اختيارهم.

فلا خروج للأمة مما هي فيه إلا بصون إرادتها  وعدم الافتيات على اختياراتها وتمكينها من الرقابة على حقوقها وعدم الوصاية عليها من قبل فئة أو عرق أو مذهب أو قومية معينة.

فإن لم يكن لهذه الأمة أي حق في الاختيار والإدارة والرقابة فليس لها الحق في الحياة.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

علامات

آراء, تاريخ

المصادر

تحميل المزيد