يعتقد الآباء والأمهات أن التفوق الدراسي من لوازم العبقرية ومتطلبات النبوغ. وأن الطفل الحفيظ (بتشديد الفاء) هو بلا شك فذ وفريد وسيتمتع بعمر من النجاح مديد. وعلى هذا ينطلق الآباء والأمهات في صحبة أطفالهم في ماراثون القراءة والكتابة، وما أدراك ما الكتابة هي قيام الأب والأم بعمل أعمدة طويلة على صفحة الدفتر البيضاء وينقشون في أعلى كل عمود المطلوب من حروف وأرقام، ويعهدون بها إلى الطفل المسكين لينقش المنقوش ويرسم المرسوم. وهنا نطلق الزمجرات وتهدر التهديدات لدرجة تطير الطفل من مكانه، وتتعالى الصرخات من فم الأم أو الأب وكأن الصرخات هي دلالة على شدة الاهتمام وإتقان التربية والتعليم والإفهام.
ولست أدري ما دلالة هذا النمط في التعليم والتربية، وفي تعليم الأطفال خصوصًا دون الكبار. حتى إننا لنشاهد كثيرًا أمهات ومعلمات يتطوعن بالإمساك بأيدي الأطفال اللينة كأنها أقلام بين أيديهن الغليظة ويكوّنّ كتلة متماسكة تكتب حرفًا أو رقمًا أو كلمة، وكأنهن بذلك منحنهم علامة الجودة وختم التفوق والامتياز. هنا تتلاشى كل نظريات التعلم وتنقرض كل أساليب التربية. يا سادة إننا لم نتعلم بالطريقة الصحيحة، ورغمًا عن هذا نصر أن نعلم أبناءنا بنفس الطريق، وذات الأسلوب.
وإليكم الحقيقة المؤلمة أن جل العباقرة والعلماء لم يكونوا متفوقين دراسيًا أبدًا. لقد كانوا أشخاصًا عاديين يتعثرون ويسقطون وينطلقون من جديد كانوا تمامًا مثلي ومثلك ومثل ابنك وابنتك وابني وبنتي.
يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري عن نفسه ما يلي:
كان من أساتذتي الأستاذ شفيق، مدرس الجغرافيا، والأستاذ غزلان، مدرس الطبيعة والأستاذ روفائيل مدرس التاريخ الذي توسم في الخير دون أي مقدمات من جانبي أو أي شواهد من سجلي الدراسي: فأنا حتى السنة الثالثة من المرحلة الثانوية كان إحساسي أن ذكائي عادي وربما أقل من العادي، ويشهد بذلك أدائي المدرسي المتواضع حيث الرسوب في السنة الثالثة الابتدائية والنجاح من الدور الثاني، وإعادة أولى ثانوي، والرسوب في السنة الثانية الثانوية والنجاح مرة أخرى من الدور الثاني، ودرجات منخفضة في معظم المواد، وكره عميق لمادة الرياضيات واللغة الإنجليزية، ودروس خصوصية في وقت لم تكن تعرف فيه هذه الظاهرة. وكنت الراسب الوحيد الذي رسب في مادة الرسم في السنة الأولى الثانوية.
ومع هذا، قرر الأستاذ روفائيل أن لدي شيئًا ما متميزًا وأعلن للطلبة أنني عبقري وأنهم لا يجب أن يقارنوا أنفسهم بي، ولذا وجدت نفسي مضطرًا ألا أخيب ظنه، وأن أقدح زناد فكري كي أصنع أشياء عبقرية كما هو متوقع مني وتحسن أدائي الدراسي حدث ذلك بسرعة أذهلتني أنا شخصيًا.
أي إنه لم يكن يحصد المركز الأول على المدرسة أو على المحافظة أو على الجمهورية، ومع ذلك أصبح عبقريًا وموسوعيًا وعالمًا وفيلسوفًا.
لقد كان الدكتور المسيري غزير الإنتاج إذ ألف ما يربو على خمسين كتابًا باللغة العربية تنوعت بين الأعمال الفكرية والنقد الأدبي والشعر والقصة، هذا غير مؤلفاته باللغة الإنجليزية وعدد كبير من المقالات والأبحاث. وقد حصل المسيري على عدة جوائز منها جائزة الدولة التقديرية في الآداب 2004، وجائزة أحسن كتاب في معرض القاهرة الدولي عن الموسوعة عام 2000، ثم نفس الجائزة في العام التالي عن كتاب «رحلتي الفكرية» وجائزة «العويس» عن مجمل أعماله الفكرية عام 2002، وقد ترجمت العديد من كتب المسيري إلى الإنجليزية والفارسية والتركية والبرتغالية، كما ترجمت سيرته إلى الإنجليزية والفرنسية
وبالحديث عن نموذج فريد آخر وهو الكاتب توفيق الحكيم الذي يصف حياته في سنوات الدراسة الأولى قائلًا:
«وعند ذلك نقلوني من مدرسة محمد علي إلى المدرسة المحمدية لقربها من منزلنا الجديد. وهنا اختل كل شيء في حياتي الدراسية. فوجدت نفسي – خصوصًا في الحساب – أمام مسائل جديدة لا عهد لي بها، فكنت أحملق في السبورة ولا أفهم شيئًا وتعاقبت الدروس وأنا على جهلي. وتراكم الجهل على الجهل، فإذا أنا أتدهور تدهورًا سريعًا كان يشعرني بمرارة شديدة وألم نفسي فظيع. ولم أجسر على مصارحة أهلي بشيء؛ لأنهم ما كانوا عودوني على مصارحاتهم بشئوني. كنت أعرف مقدمًا ردهم على كل ضعف عندي: إنه التعنت والتهديد بالعصا. خفت أقول لهم إني غير مستطيع تتبع الدرس حتى لا أسمع صياحهم المألوف: «لأنك بليد، لأنك بتلعب». لا مناص إذًا من كتمان ما بي.
وكنت أتلفت بحسد إلى زملائي الذين يرفعون أصابعهم بنشاط ليجيبوا إجابات صحيحة عن تلك المعميات في القسمة والمسائل الحسابية العويصة، بينما كنت أتضاءل في مقعدي بمذلة وفزع، وحتى لا تقع عين المدرس على إصبعي المختفية تحت الدرج كنت بليد الفصل بحق هذه المرة وكان مصيري الرسوب الذي لا ريب فيه عند امتحان آخر العام.
لقد عدد مرات رسوبه والتي بلغت حوالي خمس مرات في مراحل التعليم المختلفة حتى في المرحلة الجامعية وعندما قرر والده إرساله إلى باريس لمدة أربع سنوات للحصول على الدكتوراه في القانون كان هذا حاله.
«وقضيت في باريس تلك الأعوام وعدت إلى بلادي. عدت بالحقيبة ذاتها التي كنت قد حملتها معي، وكان بها بدلتان وأربع فانيلات وأربعة قمصان وستة مناديل. عدت بها جميعًا لم ينقص منها شيء. ما عدا شيئًا واحدًا لم أعد به. وهو ما ذهبت للحصول عليه: الدكتوراه في القانون، فأنا بطيء الفهم وراعيتي ضعيفة، بالإضافة إلى أعباء الجهاد الثقافي الشامل الذي ألقيت بنفسي كلها في لجته، مع النهم الفكري الذي استولى علي أمام موائد الحضارة الكبرى. كل هذا لم يترك لمثلي القوة ولا القدرة على حمل عبء آخر. عدت فاستقبلني أهلي كما يستقبل الخائب الفاشل. وتصادف أن سمعوا أصوات فرح على مقربة من منزلنا، فلما سألوا عن الخبر قيل إن سرادقًا أقيم وأكواب شربات تقدم ابتهاجًا بجار زميل عاد من الخارج ناجحًا فالحًا ظافرًا بشهادة الدكتوراه، فازداد مركزي سوءًا، ورأيت الهم والغم والأسى في عيون أهلي، وسمعت من حولي يتهامسون «يا خيبتنا يا خيبتنا».
هذا هو الكاتب العظيم والروائي الكبير توفيق الحكيم والذي كان من أعمدة الأدب العربي في العصر الحديث.
ومن هنا يجب علينا أن نحدد ما هو الفشل وما هو النجاح. إن معايير البشر لهما ليست حقيقية وليست واقعية. لقد تعلمت من هذه التجارب أن النجاح والفشل في الحياة العامة، حسب المعايير السائدة، ليس بالضرورة حكمًا مصيبًا أو نهائيًا، وأن الإنسان قد يفشل بالمعايير السائدة، ولكنه قد ينجح بمعايير أكثر أصالة وإبداعًا.
وتشرح لنا «كـاريـن أرنـولـد» karen Arnold أستاذة علـم التربية بجامعة بوستون وهي من الباحثات المتابعات لخط سير الخريج تقول: «أعتقد أننا اكتشفنا أن هؤلاء الأولاد المطيعين الذين يعرفون كيـف يحققون نجاحًا في النظام التعليمي هم أنفسهم الخريجون الذين يناضلون بعد تخرجهم كما نناضل نحن تمامًا. وعندما نعرف أن هذا الطالب المتفوق من الخريجين أو الطلبة قد تفوق دراسيًا بمقياس الدرجات فحسب. فهذا التفوق يقول لنا إنه ليس مؤشرًا إلى ما يحدث في الحياة من تقلبات».
والواقع أن هذه هي المشكلة حقًا: فالذكـاء والتفوق الأكـاديمـي لا يـعـد المـرء فـي الواقع لما يجـري فـي الحـيـاة بـعـد ذلـك مـن أحـداث مـلـيـئـة بـالاضـطـرابـات والتقلبات أو لما تتضمنه من فرص. ومـن ثـم فـإن أي ارتـفـاع فـي مـسـتـوى معامل الذكاء لا يضمن الرفاهية أو المركز المتميز أو السعـادة فـي الحـيـاة.
ذلك لأن مؤسساتنا التـعـلـيـمـيـة وثـقـافـتـنـا تـقـف فـي ثـبـات عـنـد الـقـدرات الأكاديمية متجاهلة الذكاء العاطفي. والذكاء العاطفي مجموعة من السمات قد يسميها البعض صفات شخصية لها أهميتها البالغة في مصيرنا نحن الأفراد. فالحياة العاطفية ميدان يمكن التعامل معه مثل الريـاضـيـات والـدراسـات بدرجات متفاوتة من المهارة وهي تتطلب أيضًا مجموعة من القدرات الفريدة الخاصة بها.
إن العاقل الآن يرتجف حين يفكر فيما يحدث لصغارنا في المدارس وشبابنا في الجامعات الذين يكبلون بالكتب المعلوماتية الثقيلة والمطبوعة بشكل رديء، والذين يقضون كل وقتهم في دراسة مواد ينسونها بعد مرور شهر، ولا تترك لهم مجالًا للإبداع أو اللعب أو التنفس، والذين يقابلون في الفصل مدرسين يحولون الحصة إلى تكأة لحشد الطلاب للدروس الخصوصية.
وإن الرحيم الآن ليتألم لتخويف الآباء والأمهات للأطفال الصغار ونهرهم وإيلامهم وقهرهم وضربهم. يا سادة هونوا على أنفسكم وارحموا صغاركم وأعطوهم فرصة للنجاح والإبداع والاستمتاع. وتقبلوا تواضع أدائهم الدراسي فربما كان دلالة على نبوغهم وعبقريتهم.
اقرؤوا سير العظماء والعباقرة فستجدون أنهم أشخاص مثلنا تمامًا ليسوا معصومين من الخطأ والزلل والضعف والنقصان هم تقدموا وبرزوا ولمعوا بقوة ومع ذلك بدا لي أن كل العباقرة كانوا متأخرين دراسيًا وصدقت فيهم الحكمة القائلة «ليست العبرة بالبدايات الضعيفة إنما العبرة بالنهايات القوية».
امنحوا أبناءكم فرصة ليكونوا عظامًا مبدعين، اهتموا بأن يكون لهم هوايات كما تهتموا بمتابعة أوقات مذاكرتهم. شجعوهم على القراءة والاطلاع فالقراءة هي ثقافة الحياة وعزاء الأرواح والعقول. إن نجاح الإنسان في حياته يعتمد على أن يكون متوازنًا في أدائه في كل نواحي الحياة وفي كل جوانب الشخصية من عواطف ومشاعر وعمل وعلم وعبادة وعلاقات وصحة وعافية.
إن الطالب الذي يتمتع بمهارات التواصل وبناء العلاقات سيتقدم في الحياة العملية عن ذلك الطالب الذي ينعزل وينكفئ على كتابه ومذاكرته 12 ساعة يوميًا. إن المفاضلة بين الأبناء والطلاب على أساس مجموعهم ومعدلهم الدراسي هي مفاضلة خاطئة 100%. وليست بأي حال من الأحوال ضمانًا أن أكثر الطلاب حصولًا على الدرجات هو أسعدهم وأنجحهم في الحياة.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست