ومن عجائب الدُنيا التي لا تتوقف، عام 2020، العام الذي لم يشهد التاريخ مثله، فقد جمَّع الحوادث العظيمة التي شهدها من قبل وكررها في لحظة واحدة. والعام بطبيعته قد تطوَّر وولَّد كُلَّ شيء من ذرة ردم في حرب الماضي لوباءٍ جماعيٍّ، وألم مجانيٍّ، وتفجيرات في البحر، وحقائق مزيفة، ودستور مغتصب، والكثير من الوقائع التي لن تنساها الذاكرة وسيُخلدها التاريخ في أشدِّ فصوله حقيقة.

إنه العام الذي أسميه عام الحقيقة بكلِّ ما فيه من حُزن وأسى مليء بالصَّدع الذي شقَّ الصدور قبل الصخور، ودفع العالم لما لا يرغب ولم يتصوَّر له أن يحدث، لينتهي بوفاة المخرج السوري الكبير حاتم علي، الذاكرة الحاضنة للتاريخ والعواطف الإنسانية، وملجأ التراكم الإبداعي والفنيِّ والنفسيِّ والثقافي والأخلاقيِّ، انتهى هذا العام بنهاية المكان والزمان الذي شيَّده العلي في ذاكرتنا، الرجل الصلب الذي حمل عبء الخراب والقتل والحرب ونقله لنا بكافة الطرق، وأظنها كانت صرخته الصامتة التي تكلمت وأكلَمت، والتي وصل إلينا صداها ونقل عظمته وتفرده من خلالها عن طريق السينما والمسرح والتلفزيون وبالتجسيد الحيّ للشخصية وقلم جاف أبدع؛ فكتب فيه.

لم يكن حاتم علي إلا شخصية جسدت عُمرَ الجيل التسعينيِّ عند مشاهدته التغريبة الفلسطينية لأوَّل مرة، وبقي عالقًا في الذاكرة على أنه رشدي الذي لم يكبُر وغادر المغارة بالبندقية التي ستُصبح وسيلة لبناء المخيم، وبوصفه أحد أركان المدن الحديثة التي وُلدت من الحرب لتبقى شاهدة عيان على كُلِّ من تهدَّم ركنه فيه. إنه الإنسان الذي لمس كلَّ أفراد العائلة بأقدام نورس، وجسد بأعماله الرابطة الأُسرية العربية العريقة التي تتخللها هالة الأب العظيمة، وجناح الأخ الكبير، وحكمة الأُم المؤمنة الأصيلة، وبوصف باقي أفراد الأسرة أحجار الشطرنج التي تُمثلهم السلطة ويُمثلون الواقع.

حاتم علي هو الكاتب الذي تبنَّى خطابًا واضحًا منذ بداية مسيرته الفنية، وضح للعيان بوصلته، من التاريخ إلى الحقيقة من الخيال الذي يضج بولادة الألم إلى واقع ينزف صراخ الوليد، إنه الإنسان الذي إذا ذكرت مناقبه خشيت أن تُتهم بمرض السردية الخيالية للكاتب ومن يضع دعائم لمقالٍ ركيك، إنّما هو الشخصية الفنيَّة الحقيقية الذي عرَّفنا إلى أنفسنا من خلال نظريات فلسفية عكسها بما تُدركه عُقولنا المُصابة بالخوف من الماضي وترقب الحاضر وتلعن الآن والحال في كُلّ انعطاف للزمن، وثَّق التاريخ، تاريخُنا نحن، من العرب القدماء إلى العرب القُدماء جهلًا، إنها المصيبة التي تجعلنا محكومين بالماضي وفساد الحاضر، بل الأجيال المقبلة على عالم فنِّي لا حاتم علي فيه ليصنع له ذاكرة.

فعلُ الشهيد وإن لم يُثمر في لحظته سيُرى عند الحرية، وعند التحرير يُخرج الكاتب والرسام والمناضل والثوريُّ سلاحه، كُلٌّ بندقيته التي خلَّدت نضال الفدائي والإنسان المُقتلع والمصلوب والمسلوب، وبندقية العلي كانت أعماله التي ترك بها بصمة واضحة سرد «لسيرة من لا سير لهم في بطون الكتب».

من فارس في المدينة، ومرايا والفصول الأربعة، وثلاثية الأندلس، وملوك الطوائف، وربيع قرطبة، والتغريبية الفلسطينية، وعمر، والملك فاروق، والزير سالم، وأحلام كبيرة وعصي الدمع، وصلاح الدين الأيوبي، ومرايا، وصراع على الرمال والغفران، والكثير الكثير.

الشعور هو بوصلة ما أراد له حاتم العلي أن يبلغه، شعورنا الجماعي في هذه اللحظة، شعورٌ وجداني مؤلم مشوب بالحزن، فقدٌ موجعٌ إلى حد الحاجة لمسكنات، ولسان الحال «هل مات كُلُّه» وهل رحل حقًّا، وهل صاحب أجمل قائمة للمسلسلات والأفلام والسيناريوهات هو صاحب أقسى ما ألمّ بنا من خوف على شاشة الغد!

هذه كلماته التي افتتح فيها التغريبة الفلسطينية في بيان لحقيقة الشعب المسلوب الوطن، والذي أبدع فأثقل في وصف وترتيب الأحداث لتبقى حاضرة في الذاكرة بحضور اسمه، وحضور الفن، وحضور التاريخ، إنها الفكرة البسيطة والمعقدة في آن التي نقلها في كلِّ مشاهده حتى نهاية المشهد الأخير، وفاته.

«فمن يحمل عبء الذاكرة، ومن يكتب سير من لا سير لهم في بطون الكتب، أولئك الذين قسموا جسومهم في جسوم الناس وتركوا آثارًا عميقة تدل على غيرهم، لكنها لا تدل عليهم».

لا بُدَّ من قول الجواهري في محاولة لاستحضار «الشغف» الذي كان فيلمًا له ولم يكتمل ليصبح عملًا طويلًا:

سينهض من صميم اليأس جيلٌ

مريدُ البأس جبارٌ عنيد

يقايضُ ما يكون بما يُرَجَّى

ويعطفُ ما يُراد لما يُريد

ها قد ترجَّل الفارس عن صهوته «وكان جوادًا بريًّا لم يسرج بغير الريح».

وداعًا حاتم علي.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد