هل فرشت العُشب ليلًا وتلحَفت السماء واستمعت إلى برنامج «لُغَتِنا الجميلة» بذلك الصوت الخارج من تلك الحنجرة الذهبية التي يتمتع بها ذلك النجم الساطع في سماء الأدب والشعر والإذاعة العربية عامة والمصرية خاصة، هو فاروق شوشة دائمًا ما أقول إن الذي ساهم في إثراء خيالي هو الراديو الذي ساهمت أمي بقدر كبير في عشقي له منذ الصغر، فكنت تلك المُستمعة الجيدة أحفظ برامجه التي عُمرُها من عمر جدي أو جدتي أو أكثر، بالرغم من أن صديقاتي يكدن لا يعرفن عن الراديو وبرامجه شيئًا.
وكنت دومًا أجد أن مَنْ لا يستمع للراديو وبرامجه القديمة فقد فاته الكثير من جمال اللغة وتلك الأصوات التي تأخذُك إلى عالم آخر تسبح فيه بمُخيلتك فيتولد بداخلك ذلك الشغف لمعرفة ذلك الجمال، لمعرفة اللغة والتعمق فيها أكثر وأكثر، وفي وسط زحمة تلك الأصالة الإذاعية وفُرسان اللغة، هناك فارس يتغنى بجمال اللغة العربية بعذوبة ذلك الصوت الذي منحه الله له، وذلك الحب الذي يخرج مع حروف كلماته لمحبوبته ألا وهي اللغة العربية.
فاروق شوشة مصري من أبناء مدينة دمياط وتحديدًا من أبناء قرية الشعراء بها، ولِدَ عام 1936، حفظ القرآن بها وأتمه جيدًا، وحصل على ليسانس دار العلوم لعام 1956، وحصل على بكالوريوس التربية عام 1957، وعُين في الإذاعة وتدرج في وظائفها حتى عُين رئيسًا للإذاعة عام 1994، وعمل أيضًا أستاذًا للأدب العربي بالجامعة الأمريكية بالقاهرة.
ألِفَ فاروق شوشة ميكروفون الإذاعة، حتى ألِفَت آذاننا صوته، فهو العاشق المُتيم بلغة الضاد، وكيف كان قوله لبيت الشعر ذاك «أنا البحر في أحشائه الدُر كامن … فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي»، وكيف كانت تلك الأمسية الثقافية التي كان يُقدمُها على التلفزيون مستضيفًا نُخبة من الشعراء والأدباء وكيف كان حواره المُثمر الذي ينُم عن كم من الثقافة والوعي والرقي الحواري وتمسكه باللغة العربية الفصحى فى كل قول يقوله.
ولم يكن مجرد إذاعي يتغنى بجمال اللغة وما تكمنه في أحشائها، بل إنه كان شاعرًا له العديد من الدواوين الشعرية منها: وجه أبنوسي، لغة من دم العاشقين، يقول الدم العربي، الدائرة المُحكمة، لؤلؤة في القلب، إلى مُسافرة… وغيرها من الدواوين الشعرية.
يقول فاروق شوشة باسم الشهداء:
باسم الشهداء، باسم الأحرار الشُرفاء
أنبل من أنبتهم هذا الوطن الغالي من أبناء
باسم جموعٍ صدت غول الموت، وداست طاغوت الظلماء
باسم شباب رفعوا الراية فامتدت طالت كل الأعماق
وضجت كل الأصوات هاتفة هادفة «قد صار لهذا الوطن سماء»
وتتلمذ فاروق شوشة في السنة الأولى لدراسته في كلية دار العلوم على يد المُفكر الإسلامي «سيد قطب» رحمه الله وعندما سُئل عنه قال لقد عشنا معه حقًا في ظلال القرآن، مُشيدًا بأسلوبه الهادئ السليم في تعليمهم آيات القرآن الكريم حتى يرتقي بهم لمستوى الطلبة الأزهريين.
وهناك بعض الأبيات من رسالة إلى أبي لفاروق شوشة:
«أبي تراك في مكانك الأثير مانحي سكينتك
وقد فرغت من رغائب الحياة
فانسكبت شيخوختك
على مدارج الصفاء والرضا
وصار قوس الدائرة
أقرب ما يكون لاكتمالها الفريد
هأنذا ألوذ بك
أنا المحارب الذي عرفته، المفتون بالنزال
وابنك..
حينما يفاخر الآباء، بالبنوة الرجال
منكسرًا أعدو إليك
أشكو سراب رحلتي
وغربتي
ووحدتي
محتميًا بما لديك من أبوتي
ولم يزل في صدرك الرحيب متسع
وفي نفاذ الضوء من بصيرتك
جلاء ظلمتي وكربتي
فامدد يدك الذي قد غاله الطريق
واخترقت سهامه صميمه.. فلم يقع
لكنه أتاك نازفًا مضرجًا
دماؤه تقوده إليك».
وله أيضًا مؤلفات أدبية كثيرة تفتخر بها مكتباتنا العربية منها: أحلى عشرين قصيدة حب في الأدب العربي، لغتنا الجميلة، العلاج بالشعر، عذابات العمر الجميل… وغيرها من المؤلفات الأخرى.
حاز على جائزة النيل، جائزة الدولة التقديرية، وجائزة الدولة في الشعر العربي، وفقد الأدب العربي فاروق شوشة في 14 أكتوبر 2016.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست