«هوه صحيح يا شيخ الواحد لما يبوس الفلوس اللي بتجيله من شغله.. ده يبقى حرام؟!» كان هذا السؤال الصادم الذي وُجّه لــ«بلال فضل» يومًا ما، هو المحور الرئيسي الذي دارت حوله فكرة مقال «فتوى في البوس» الذي افتتح به بلال فضل كتابه «ضحك مجروح»، محاولًا تسليط الضوء على أزمة حقيقيّة تُلاحظ يوميًّا، ويعاني منها كثير من المصريين، وهي طلب الفتوى في الهفوة.
في المقال يتحدَّث بلال بأسلوبه المريح للعين في القراءة، البسيط على الرأس في إيصال الفكرة، عن الهوس الدائم لدى المصريين في طلب الفتوى في دبة النملة، يحاولون دائمًا إيجاد أصل ديني، أو تصريح ديني لأي شيء، فعلى سبيل المثال تساءل أحدهم يومًا محاولًا إيجاد قول نهائي في الحِمل الذي يؤرِّق نومه، عن شرعية شرب (الفياجرا) بماء زمزم!
حاجة بالنحوي:
وبالعودة لسائق التاكسي مرة أخرى، والذي أكمل :«معلهش يا شيخ هو سؤال غريب بس أنا يعني متعود أبوس الرزق لما يجيلي.. مرة وأنا ببوس حتة بعشرة استفتحت بيها، كان راكب معايا زبون شيخ زي سيادتك كده، بس سَرَعني لما لقيته صرّخ فيا اللي بتعمله ده شرك استغفر ربك.. قولتله منيش قصدي يا شيخ.. قالي ده مش عذر ياما ناس بتخرج من الدين خروج حاجة من حاجة.. قال حاجة كده بالنحوي بس مالقطتهاش عشان ماكنتش لسه عملت الاصطباحة» كانت الجملة النحوية التي لم يفهمها السائق هي «مروق السهم من الرمية».
ثم بعدها بفترة ركب معه زبون آخر «اللهم صل على النبي شيخ برضو زي سعادتك كده، بس دقنه كانت أطول شوية، وزبيبة الصلاة واكلة نص وشه.. قالي نفس الحكاية، فبصراحة اتلخبطت جامد.. وكنت ناوي أطلع على دار الافتاء اللي في الدرّاسة عشان أسأل بس ربنا بعتك ليا عشان توفر عليا المشوار»، كان هذا الأمر بالنسبة للسائق هم كبير تسبب في أنّه «فِضل متنكِّد» طوال اليوم؛ خوفًا من أن يكون قد خرج من الإسلام، وأشرك بالله مثلما قال له الشيخ!
من المسؤول؟
يتضح من مثال سائق التاكسي –الذي لم ننتهِ من حكايته بعد- أنَّ هناك سببًا مهمًا في هذا الهوس عند المصريين، ليس ضعف الثقافة الدينية فقط، وإنما هناك سبب رئيسي مهم للغاية وهو أمثال -اللهم صل على النبي- الشيخ الذي ركب مع التاكسي، وهم كثيرون.
الذين يقومون بتوجيه الناس وإرشادهم، وتعليمهم أمور دينهم ويظنون أنَّ «بوس الرزق» هو سبب للخروج من الملة؛ طبيعي جدًّا أن يكون منتجهم بهذا الشكل، وأن يكدِّر بال الناس الذين يستمعون إليهم أشياء غريبة، أو ربما قُل مستفزة. وأيضًا حصر الدين في التفاهات نتيجته الطبيعية ما نصطدم به يوميًّا مع هذا التفكير وتلك التساؤلات، كشرب الفياجرا بماء زمزم حلال أم حرام؟ أو أنَّ جملة «كل سنة وإنت طيب» التي تقال للمسيحيين في أعياد الميلاد شرك بالله!
هو السؤال حُرُم؟!
ربما يأتي في بالك هذا السؤال الاستنكاري «هو السؤال حُرُم؟! الناس بتحب دينها يا أخي وبتحب تسأل عن كل حاجة!»، سؤال مشروع ومن حقّك تمامًا، فلا يحق لأحد أن يُحرِّم السؤال على أحد، أنا هنا فقط محاولًا تنبيهك إلى أنّك أعلم بشؤون دنياك يا صديقي، وأنَّ السؤال عن «الفاضية والمليانة» ليس شيئًا جيّدًا، ولا محببًا حتى في الدين.
رأي النبي عن كثرة الأسئلة
بالعودة للسيرة النبوية بخصوص رأي النبي وموقفه من الأسئلة الكثيرة التي ليس لها داعٍ، ذُكر أنَّه رُوي عن ابن عباس أنَّه قال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أذّن في الناس، فقال: يا قوم كتب عليكم الحج، فقام رجلٌ، فقال يا رسول الله، أفي كل عام؟ فأغضب رسول الله غضبًا شديدًا، فقال: والذي نفسي بيده، لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، وإذن لكفرتم، فاتركوني ما تركتكم، فإذا أمرتكم بشيء، فافعلوا، وإذا نهيتكم عن شيء، فانتهوا عنه.
هل اقتنعت؟ لو ليس بعد، فأظنُّ أنَّ الموقف التالي ربما يقطع عندك الشكَّ في هذا الأمر، ذُكر في (الصحيح) عن سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنّه قال: إنَّ أعظم المسلمين في المسلمين جُرمًا من سأل عن شيء لم يُحرَّم، فحُرِّم من أجل مسألته. ولما سُئل النبي عن اللعان، كره المسائل وعابها حتى ابتلي السائل عنه قبل وقوعه بذلك في أهله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال.
رغم المواقف الواضحة والصريحة كالتي ذكرتها وغيرها، إلا أنَّ الكثيرين يصرّون على إثارة بعض الأمور الغريبة والمستنّكرة، مثل فكرة أن تقبيل المال شرك بالله! وأظنّ أنَّ مثل هذا السؤال ما كان يشغل بال أحد بهذه الطريقة لو لم يكن قد أثاره أحدهم من قبل.
ملاحظة مهمة
وقبل أن أُنهي، أتمنى ألا تترك الغرض الأساسي من الموضوع، وتشغل بالك بهل كان الذي ركب مع السائق شيخ وقارئ في الدين أم لا؟ فهذا ليس بالموضوع الأساسي، فإن كان الرجل الذي ركب مع السائق شيخًا فتلك مصيبة، وإن كان مواطنًا عاديًّا يتحدث بتلك اللهجة واليقين فتلك مصيبةٌ أعظم.
انصح واجرِ
المهم دعونا نعود للسائق مرة أخرى، عند وصول التاكسي إلى المكان الذي سينزل فيه بلال، نزل من التاكسي وقبل أن يذهب، نظر إلى السائق من الشباك، وقد عقد العزم على أن يقطع شك هذا الرجل، وأن يخفِّف من المعاناة التي يعيشها السائق وتنغِّص عليه حياته، فسأل السائق سؤالًا ليفتح له الطريق للنصيحة التي سيعطيها له في النهاية، فقال له: «بص ياسطى من الآخر.. الفلوس اللي أنت بتسأل على حكم بوسها دي حرام ولا حلال؟» فرد عليه: «حلال طبعًا يا شيخ!» فما كان من بلال إلا أن يقول له: «إن كانت الفلوس حلال فمش بس تبوسها.. نام معاها لو عايز» وجري.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست