الفلسفة القائمة على طلب الراحة، أو استجلاب الأمان، أو الخلاص الشخصي، لا تصلُح أن تكون فلسفة، فضلًا عن أن تكون مرجعية صلبة لدعاويها العريضة الفارغة، أو لمدعوها، فالعبد الهائم بها وبجمال مخرجاتها القائمة على أساسها الدعوي، حين يطبقها يتعثر في حذائه، ويقع في متاعبه، ولا يستطيع إلا أن يكون أكثر من خائف، وأكثر من مفتقر رغم جدية سعيه نحو خلاصه، ولا يجني من هذه الخطة التعيسة سوى الإغراق في الغمغمة بشكل أكبر، والانتكاسة من الداخل في الداخل؛ وفي الخارج.
إن هذه الفلسفة، وإن كانت منزعًا إنسانيًّا فإنها تتناقض وطبيعة الإنسان، وهنا أتحدث عن الإنسان الذي خلقه الله بيديه، ولم تخلقه الأنظمة الفاسدة، أو التربية التقليدية الداثرة، أو التبعية الداعمة لأتباعها، ترفض جوانية الأحرار والنبلاء هذه الأحجية السخيفة؛ إذ لا قدرة لهم على احتمالها، فالقهر يمس أرواحهم، ولا يمس الأشياء الخارجة عنهم، ويفضي بهم إلى القاع، حيث لا حياة مختارة، ولا استقلال، وهم يرفضون القاع لأن فيه موتهم.
إن الإنسان في اختلافه كالآلة في اختلاف تصاميمها، ولكن اختلاف تصاميم الآلة يُخبرنا عن جودة أقل أو أكثر، بمعنى أن لهذا التصميم معنى، وليس مجرد تصميم اعتباطي لا معنى له، وكذلك هو الإنسان.
نستغرب كثيرًا حين نرى من يحاول تحرير العبيد فيتمنعون، ونستغرب كثيرًا أيضًا حين نرى من يحاول استعباد الأحرار فيرفضون، فما الذي حمل هؤلاء على التمنع، وفيه خيرهم، وما الذي حمل هؤلاء على الرفض وفيه شرهم؛ رغم ما يحدث لهم من شر، فإذا كان الأخير مفهومًا، فلن يكون مفهومًا إلا للأحرار، ولكنه لن يكون مفهومًا للعبيد، وإذا كان الأول مفهومّا، فلن يكون مفهومًا إلا للعبيد، ولكنه لن يكون مفهومًا للأحرار، والسؤال ما الذي جعلهم على هذه الشاكلة المتجانفة المختلفة، في الوقت الذي يدعون فيه شوقهم وتعشقهم للحرية، بل يحدث وأن بالغ العبيد بأنهم أحرار، ولربما أكثر حرية من الأحرار أنفسهم.
الكذب على الناس لا يتحصل حتى يكذب المرء على نفسه، فإذا ما راقكم ذلكم الكذب، واستشربت النفس ذلك الأُجاج، كان به بين الناس كالماء السلسال، وكالندى على الأخضر واليابس، ومرد الكذب طاقة سلبية مكتسبة، استلهمها ولم يستطع تجاوزها بعد إن وعاها، فهو حبيس خداع الذات، تالف القيمة، حاسر الوجود.
ثم إن المشاعر الجماعية في داخل المحيط الواحد، والفكر المتوارث البليد، تدعم هذا التداخل، وترفع من شأنه، وتنظر في إيجابيات العبودية، وتغض الطرف عن سلبياتها، ومع ذلك يرافقها شعور آخر ينافي شعورها، ويتبدى لها في حالات حدة الاستعباد، أو حدة البحث عن الخلاص من اكتناف الذات للواقع الذي يرفضه، وأشكل مشكلاتها -أعني تلكم المشاعر الجماعية – أنها لا تسمي العبودية باسمها، ولكنها تختار لها اسمًا مسؤولًا، ينم عن مسؤولية وحسية العبد، إزاء المعبود، فالرزق اسمها، والحكمة رسمها، بينما الحقيقة تقول عدم رضاها على رزقها، وعدم توفر الحكمة لديها في حياتها، وأنى لحكيمٍ أن يكون عبدًا، وأنى لمؤمنٍ مستعبد في رزقه.
الأغرب من هذا، حدوث ما يدعو إليه الأحرار، لا حدوث ما يتعلل به العبيد، وصدق حماستهم المبنية على المعرفة والثقة في الصواب، وفساد حكمة المستعبدين في الأرض، المُستعمرين في حياتهم.
يقيم العبيد في وادٍ به الزرع دون ثمر، والنكسة والخوف في صمتهم ومصيمهم، وهمُ في مرحلة خطرة من التخلف عن مفهوم الحياة، وطعمها الذافر، وطعامها الصحي، يمارسون تلكم الفلسفة التي يظنونها المخرج الوحيد لهذا الحلول الذي أصابهم، وكأنهم لم يمارسوها قط، في حالة من الخلل والاستدخال العبثي، وعدم القدرة على فض اشتباك هذه الجريرة التي ينهجونها، ويعجزون عن استهجانها، والتملص منها، ولو لمرة واحدة.
الآلة لا ترفص تصميمها، ولكنها تعمل بموجب ذلك التصميم، بيد أن ليس لها عقل، أو تراكم معرفي، بخلاف الإنسان الذي يملك ذلك، ولديه القدرة المبدئية لفك شفرات هذا التصميم، واستبداله بما هو أفضل، إلا أن كنه المشكلة في عدم وجود معرفة من الأساس، وبعدها، وحيث لا توجد معرفة لا يوجد عقل، وحيث لا يوجد عقل لا يوجد تصور، وحيث لا يوجد تصور لا يوجد تصرف، لتبقى مساكن العبيد خاوية، وفلسفتهم مشبعة بالمغالطات.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست