زلزال أوقعته كلمة القايد صالح قائد الأركان للجيش الجزائري في المشهد السياسي المتشنج.
بعد انتظار طال أمده يطل علينا قائد الأركان من قيادة الناحية العسكرية وما تحمله من رمزية، اختيار القايد لم يكن عبثيًا لما تشكل من موقع استراتيجي وما تضمه من ترسانة عسكرية وقوة بشرية تجعلها الناحية رقم واحد في قيادة الأركان إلى جانب ضمها لقوة الصاعقة والقوات الخاصة.
تأتي خرجة القايد بعد تراجع القوى غير الدستورية التي خاض معها حربًا نفسية لم تكن خفية، فظهوره الإعلامي في خضم الحراك بات يسمه الرجل رقم واحد في المشهد السياسي، وباتت خرجاته لها السبق الإعلامي في التلفزيون الرسمي، جولات ماراثونية لم تثنه عنها ظروف سنه، ولا ثقل المهام الدفاعية الملقاة على عاتق قيادة الأركان على اعتبار الظروف غير الأمنية التي تعيشها دول الجوار، تنقلات بين تفتيش ومعاينة لأهبة القوات المسلحة، لم تكن في باطنها سوى ضمان لمساندة قيادة النواحي لقرار القايد.
تقاطع مستقبل الشعب والجيش الذي لم يغب عن خطابات القايد في بداية الحراك بعد تراجعه عن وصفه للمتظاهرين بالمغرر بهم، أصبح يشيد بتقاطع طموحات الشعب مع مهام الجيش من ضمانات قدمت في مضامين خطابات قائد الأركان.
تخوف طبقة واسعة من متتبعي الشأن السياسي الجزائري داخليًا وخارجيًا، أصبحت من الضروري التهوين منها، ونحن نقطع أشواطًا من تقلد أبناء الشعب من نخبة جيل الاستقلال وتراجع سيطرة ضباط ساميين في المؤسسة العسكرية كانت ولاءاتهم علنية للمصالح الفرنسية، وولاءهم أضحى جليًا وعميقًا للمصلحة العليا للوطن.
إن ما حققته القيادة العسكرية من نقلة نوعية في البنية التحتية والمنشآت المتعددة والتجربة الرائدة للجيش في مجال الصناعات العسكرية مع الشريك الألماني وبعثها للمركبات الوطنية المفلسة، ناهيك عن النقلة النوعية في الخدمات الطبية في مستشفيات القطاع العسكري وما تضمه من نخب طبية وكفاءات استشفائية يشاد بها، لهو كفيل بدفع المخاوف من تجربة سالفة خاضتها الجزائر في مطلع التسعينات بعد قرار وقف المسار الانتخابي وإدخال البلاد في دوامة من العنف غير المسبوق.
إنه لمن المجحف المبالغة في المخاوف من قرار قائد الأركان، فقد أرجع هذا القرار للدولة مدنيتها بعد فقدان النظام ماهيته الدستورية، وتيه مؤسسات الدولة في دوامة صنعتها القوى غير الدستورية، والرجوع إلى العمل بالآليات الدستورية، في انتظار تخطي المرحلة القادمة أقول وأكرر: جيش 2019 ليس جيش 1992، والأيام كفيلة ببرهان ذلك، فمطالب الحراك الرئيسة تناولت في مضامينها رسائل للمؤسسة العسكرية محتواها تجديد العقد الاجتماعي بين الشعب وأبناء المؤسسة العسكرية الأوفياء.
الحدث هذا المساء رجح الكفة للقايد على حساب القوى غير الدستورية وجسد انتصار الحراك على مسيري عهدات ما بعد مرض الرئيس.
قراءة متأنية
تتباين القراءات والتكهنات حول فحوى رسالة قائد الأركان أحمد قايد صالح التي أطلقها من قيادة الناحية العسكرية الرابعة، هذا التباين يبقى رهين سقف المطالب الشعبية المرفوعة منذ بداية حراك 22 فبراير (شباط) التي أخذت منحنيات جديدة بعد رمي فريق الرئاسة للمنشفة في 11 مارس (آذار).
تراجع «التفالقة» عن المضي في العهدة الخامسة مع إعادة تموقع جديدة بدأ التخطيط لها منذ بداية الحراك، والجلي هنا أن خرجة القايد توحي بأنه سيكون خارج المرحلة القادمة المخطط لها حسب المجموعة المذكورة، وتبين حدة الخلافات الموجودة بين القايد والطرف الثاني الذي يدفع بالجميع نحو المرحلة الانتقالية لضمان خروج المحيط الرئاسي بأقل الأضرار، ودون عقاب، هذا إن سلم زمام الأمور.
اقتراح تطبيق المادة 102 من الدستور القاضية باعلان شغور منصب رئيس الجمهورية الواجب اعلانها من طرف المجلس الدستوري المنقوص الشرعية وغير المرحب به لا شعبيًا، ولا من طرف القوى السياسية، زد على ذلك الرفض التام والكلي لتولي رئيس مجلس الأمة عبد القادر بن صالح لمهام رئيس الجمهورية.
سياسة الرئيس في تعيين رجال الظل على رأس المؤسسات الدستورية والسياسية أفرزت أزمة ثقة، لما يحمله الرجال المعينون من ولاء مطلق وطاعة عمياء للجناح الرئاسي.
دعوة قائد الأركان لم تأت بصفة الأمر، بل فيها دعوة للعمل بالدستور، دعوة تحمل في مضامينها تسليمًا مطلقًا باحترام الدستور وضرورة احترام القانون، لكن قائد الأركان أهمل نقطة أساسية وهي أزمة الثقة المفقودة لدى من سيتولى تسيير مرحلة الشغور، فالطيب بلعيز وبن صالح معروف عليهما الولاء المطلق للرئيس ومحيطه وكذا عائلة الرئيس، وفاقدين للشرعية والثقة لدى جماهير الحراك.
خرجة القايد رسالة خامسة لشعب الحراك بضمان المؤسسة العسكرية حق الشعب المكفول دستوريًا في العيش في كنف جمهورية تضمن الحريات العامة للأفراد، وتقاطع مستقبل الجيش الوطني الشعبي مع المطالب الشعبية.
بعيدًا عن القراءات العشوائية لفحوى الرسالة التي أطلقها قائد الأركان، لابد من التأكيد على مطالب جديدة سيتم رفعها في الجمعة السادسة فحواها المطالبة برحيل رئيس المجلس الدستوري ورئيس مجلس الأمة وكل من تورط بشكل أو بآخر في المهازل السياسية التي عاشتها البلاد، مطالب مشروعة ومعقولة تلك التي ترفعها الجماهير، فالتغيير لن يكون سوى برحيل المجموعة التي تتحمل أوزار ما وصلت إليه البلاد، الجمهور محق في قراءته لرغبة القايد في إخراج الرئيس مخرجًا مشرفًا وآمنًا.
تلكم هي ربما رغبة الإماراتيين المعروف عليهم علاقتهم العميقة مع آل بوتفليقة، بعد زيارة القايد للإمارات لم يخف غلمان زايد مخاوفهم على مصير العائلة الصديقة، من جهة والواجب الأخلاقي الذي وقع فيه القايد مع صديقه بوتفليقة الذي مكن القايد منصبًا سياسيًا: نائب وزير الدفاع. ليكفيه شر التقاعد الإلزامي الذي دفع إليه زملاؤه الجنرالات، كما أجاد بحنكته ودهائه التخلص من خصومه في المؤسسة العسكرية، رهان أخلاقي وقع فيه القايد بعد وهن صديقه صحيًا، وتمكن القوى غير الدستورية من التلاعب بمصير البلاد والتلاعب بالختم الرسمي للدولة.
بعيدًا عن العواطف الجياشة والاندفاعية لابد من عقلنة الحراك والعمل على تنوير الرأي العام بمختلف شرائحه البسيطة، لأن ما وصلنا اليه من أزمة ثقة يلزمها وقت طويل حتى تتوارى، والاستمرار مطلوب نضاليًا وفق قاعدة خذ وطالب، فغنيمة تطبيق المادة 102 التي دعا إليها قائد الأركان لن يتم التفريط فيها.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست