بغض النظر عن الانتقادات التي وجهت للنظرية النسوية في العلاقات الدولية، بأنها لا ترقى بأن تكون نظرية، أو عدم اتفاق باحثات وباحثي النسوية على منهجية محددة. في النهاية لا نستطيع أن ننكر أن النظرية النسوية ساعدتنا في إلقاء الضوء على مواضيع مختلفة في العلاقات بين الدول مثل الجنس، العرق، اللون، والفئات المهمشة التي لم تلفت النظر إليها أي من نظريات العلاقات الدولية التي سبقت النسوية؛ الأمر الذي ساعدنا ويساعدنا في الوقت الحاضر في إعادة فهمنا ولو قليلًا للعلاقات بين الدول والإقرار بأهمية هذه النظرية سواء اتفقنا مع النسوية أو اختلفنا معها.

تحاول هذه المقالة توضيح كيفية استخدام نظرية النسوية في العلاقات الدولية في فهم دور المرأة الفلسطينية في نضال الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي، وذلك من خلال التركيز على إسهامات النظرية النسوية في مجال العلاقات الدولية والمنهجية التي استخدمتها النسويات / النسويون، خاصة النسوية التحليلية، مثل استخدام الجندر كوحدة تحليلة للتنظير في مجال العلاقات الدولية.

إسهامات النظرية النسوية في العلاقات الدولية

أحدثت النسوية نقلة نوعية في دراسة العلاقات الدولية بعيدًا عن التركيز المنفرد على العلاقات بين الدول، وفي اتجاه التحليل الشامل الذي يستوعب الفاعلين والأبنية العابرة للقوميات وتحولاتها أيضًا[1]. تركيز النظرية النسوية على النوع جعلنا ننظر للعلاقات الدولية والأمن والسلم العالميين بمنظور جديد يتعلق بدور النوع الاجتماعي في العلاقات الدولية، حيث إن النوع الاجتماعي يلعب دورًا كبيرًا في تركيبة الدول داخليًا بالتالي ينعكس ذلك على العلاقات الخارجية بين الدول. تعتبر النسوية أن حقل العلاقات الدولية ذو هيمنة ذكورية، والمصطلحات المستخدمة لتفسير العلاقات بين الدول هي مصطلحات ذكورية مثل القوة، السيادة، الهيمنة وغيرها من المصطلحات. ويجادل النسويون/النسويات بأن النظريات التي حاولت شرح العلاقات بين الدول ليست طبيعية أو محايدة من ناحية النوع الاجتماعي، ولكنها عبارة عن انعكاس سياسي اجتماعي ذكوري يأتي أصله من التركيبة الاجتماعية والسياسية داخل الدولة الواحدة.

توضح الأستاذة عديلة محمد الطاهر في بحث قصير بعنوان «المقاربة النسوية في العلاقات الدولية»، بأن المشروع النسوي في العلاقات الدولية يمكن تلخيصه بثلاثة مشاريع متعاقبة. المشروع الأول، محاولة عرض درجات وتأثيرات الانحياز الذكوري، من خلال توضيح هيمنة المفكرين الذكور في حقل العلاقات الدولية، بالنسبة لهم يرجع ذلك ليس بسبب قلة خبرة النساء، بل بسبب الهيمنة الذكورية واستخدام مصطلحات ذكورية مثل القوة، السيادة والأمن. المشروع الثاني، هو محاولة دمج النساء في الأطر المعرفية الموجودة والمهيمن عليها من قبل الرجال. المشروع الثالث، يركز على إعادة هيكلة وبناء النظرية من خلال استخدام مصطلحات ومعطيات جديدة مثل الجندر (Gender) والجنس (Sex)، وأن الجندر ليس معطى بيولوجيًا كما ادعت الواقعية، بل هو عبارة عن معطى تاريخي مؤسساتي يتم بناؤه في المجتمع من خلال توقعات وتصرفات محددة لكل من الأنثى والذكر.

نستنج أن النسوية ركزت على شيئين مهمين هما، استنكار استخدام مصطلحات ذات هيمنة ذكورية مثل القوة، الأمن والسيادة لشرح العلاقات الدولية، وتركيزهم على ضرورة استخدام مصطلح الجندر في شرح العلاقات بين الدول لما له من أهمية داخليًا بالتالي لا يجب إهماله لكي نصل إلى تحليل متكامل للعلاقات الدولية. بالنسبة لمفهوم الجندر وإعادة هيلكة النظرية الدولية، أثارت الدراسات النسوية إشكالات سوء الثنائيات المحددة للحقل الدراسي للعلاقات الدولية التي يدعمها الارتباط بالثنائية النوعية ذكر أو مؤنث: فمثلًا ترتبط النساء بالأنوثة، والسلام، والتعاون، والذاتية، والسياسة الخارجية الناعمة، ويرتبط الرجل بالذكورة والحرب والتنافس والموضوعية والسياسة الدولية الصلبة[2].

ما نستطيع رؤيته هنا هو محاولة النسويون/ النسويات بإعادة هيكلة البنية الاجتماعية المرتبطة بأدوار الذكر والأنثى في المجتمع استنادًا بأن مصطلح الجندر هو ليس بيولوجيًا، بل بنية تاريخية اجتماعية جرى بناؤها، فعندما يتم هدم هذه الثنائيات والافتراضات المتعلقة بدور الأنثى أو الذكر داخليًا يتم هدمها تلقائيًا في العلاقات بين الدول، الأمر الذي يجعلنا ننظر للمشاكل الدولية والحلول بنظرة مختلفة عما سبق بوجود تلك الثنائيات. على سبيل المثال، لفتت النسوية الليبرالية إلى دور النساء وغيابهن عن السياسة العالمية وأرجعت سبب ذلك إلى انشغال النساء بأدوارهن بالبيولوجية المرتبطة بالإنجاب والعناية بالأطفال، ولفتت إلى ضرورة أخذ النساء مراكزهن في السياسة الدولية. وركزت النسوية الاشتراكية على الوضع المادي للمرأة وأرجحت سبب تردي وضع النساء المادي مرتبط بالرأسمالية والنظام الأبوي. النتيجة أن المرأة أصبحت في وضع غير متساوي مع الرجل في جميع مجالات الحياة.

تجادل النسويات فعلًا بأن النساء سيحصلن على دور متساو في عملية صنع القرار المجتمعية، عندما يعترف بهن باعتبارهن كفاعلات أساسيات في الهيئات الاقتصادية والسياسية وعن طريق تصحيح إهمال الدراسات الإمبريقية للنساء والعلاقات النوعية، تمكنت الدراسات النسوية من الارتقاء في فهمنا للسياسة العالمية ومن المساعدة في وضع اهتمامات وأصوات النساء على الأجندة العالمية[3].

انتقادات وُجهت للنظرية النسوية

الكثير من الانتقادات طالت النظرية النسوية، أهمها عدم وضوح المنهجية التي استخدمها النسويون/ النسويات في فهم العلاقات الدولية، وأيضًا عدم اتفاقهم على مخرجات محددة للتحليل الذي قاموا به مستخدمين النوع الاجتماعي في تحليل وفهم العلاقات بين الدول، الأمر الذي يجعل الكثير من الباحثين باعتبار أن النظرية النسوية لا ترقى لأن تكون نظرية نستطيع الاستعانة بها لفهم العلاقات الدولية. فالمأزق الذي يتهدد النسويين هو إمكانية الخروج والتحرر من المركزية الذكورية للوقوع في المركزية الأنثوية، وكذا الوقوع في خطأ اعتبار النساء كفئة أوضاعها ومطالبها وتطوراتها وقدراتها وطموحاتها وأهدافها ووسائل تحقيق ذلك متماثلة وموحدة[4].

وتجادل شاندرا موهانتي في مقال بعنوان «تحت عيون الغرب»، بأن النسوية «الغربية» أيضًا تمارس دور هيمنة وذكوري ضد النساء في العالم الثالث وأيضًا ضد نساء من لون وعرق وطبقات مختلفة، إضافة لذلك تنتقد شاندرا أيضًا النسوية في العالم الثالث لاستخدامهم نفس أساليب ومنهجية النسوية «الغربية» التي ينتقدنها وذلك لأنها تعتقد أن كل مجتمع له خصوصية تاريخية وثقافية ودينية ومجتمعية محددة. وتعتبر شاندرا أن النسوية الغربية تدخل ضمن السياق العالمي للهيمنة الغربية على دول العالم الثالث، فبالتالي تمارس النسوية الغربية نفس الدور الذكوري الأبوي.

أعتقد أنه بغض النظر عن اختلاف المنهجية التي استخدمتها النظرية النسوية لشرح العلاقات الدولية، والانتقادات من قبيل أنها لا تعدو لأن تكون نظرية يمكن الاعتماد عليها لفهم وتحليل العلاقات الدولية، أعتقد أن هذا الانتقاد مهم من أجل تصويب وتطوير النظرية النسوية، ولكنني لا أنكر بنفس الوقت ان النظرية النسوية أعطتنا القدرة على رؤية العلاقات الدولية والسياسة العالمية بمنظور مختلف عما اعتادت عليه النظريات التي سبقتها كالنظرية الواقعية والماركسية والليبرالية وغيرها. من خلال استخدام الجندر كأداة تحليلية في فهم العلاقات الدولية، تم تسليط الضوء على موازين القوى الموجودة في الدولة بناء على النوع الاجتماعي ومعرفة كيف يمكن تشكيلها الأمر الذي يجعلنا نفهم انعكاس هذه الهيكلية في القوى على المستوى الدولي.

معرفة دور النساء في النزاعات الدولية مهم جدًا، حيث إننا غالبًا ما نغفل ذلك باعتبار أن القوة والحروب مرتبطة بالرجال، ولكن النساء تشكل جزء مهم من جميع الصراعات الدولية، حيث كان هناك دور كبير للمرأة في الحروب والنزاعات الدولية التي تخوضها الدولة من ناحية الضغط على الدولة والجيش بحكم أن أبنائهن يحاربون، أو التظاهر من أجل وقف الصراعات والحروب. وأذكر في هذا المقام، حادثة تحدث عنها شخص في فيلم وثائقي، حيث هذا الشخص هو «مقاتل» في منظمة أيلول الأسود التي قامت بعمليات متعددة ضد دولة الاحتلال الإسرائيلي في دول مختلفة في العالم، كانت بداية عملهم هي عملية اغتيال وصفي التل رئيس الوزراء الأردني في القاهرة/ مصر أثناء اجتماع لرؤساء الخارجية العرب، يقول هذا الشخص أنه بعد اعتقالهم اتصلوا بمنزل الرئيس المصري آنذاك أنور السادات، فردت زوجته جيهان السادات، تحدثت مع مدير السجن وطلبت منه عدم تعذيب الأشخاص الأربعة الذين تم اعتقالهم ومعاملتهم معاملة جيدة[5]. هذا الموقف يجعلني أفكر في دور النساء وخاصة زوجات الرؤساء في العلاقات الدولية والاهم من ذلك هل من المعقول أن يكون لهن تأثير على السياسة الخارجية لدولة ما؟

دور المرأة الفلسطينية في النضال ضد دولة الاحتلال الإسرائيلي

المرأة ومشاركتها في العمل السياسي، سواء في التحرر من احتلال ما، أو المشاركة في مظاهرات واحتجاجات شعبية غالبًا، أو سأتجرأ وأحكي، دائمًا يُلحق بتعليقات مثل أن هذا ليس الوضع الاعتيادي للمرأة، مكانها هو الوقوف وراء الرجل أي الوقوف في الصف الخلفي، مثلًا للاعتناء بالأطفال أو مداوة جراح المصابين أو غيرها من الأفعال اللامتناهية التي يمكن اقتراحها على المرأة لتبقى في ذلك الجانب الاخر من العمل السياسي. التبريرات لذلك هو أنه من غير المحبذ مشاركتها في مثل هذه الأفعال «الذكورية» حيث إن فيها كثيرًا من العنف، ولربما تتأذى النساء. نستطيع استخدام المنهجية التي استخدمتها النظرية النسوية وهي استخدام الجندر كأداة تحليلية في فهم وجود مثل هذه التعليقات، وفهم دور المرأة الفلسطينية في العمل السياسي والنضال الوطني ضد الاحتلال.

يقول الأكاديمي جوزيف مسعد في مقالة بعنوان «إدراك الذكورة، النوع الاجتماعي والوطنية الفلسطينية»، أن الاستعمار ولأنه مرتكز على صفة الذكورية، فإن الحركات التحررية الوطنية تتسم بالطابع الذكوري، ونتيجة لذلك يجادل جوزيف مسعد أن الهوية الوطنية الفلسطينية ترتكز على صفة ذكورية، وذلك من خلال تحليل بيانات القيادة الوطنية الموحدة خلال الانتفاضة الأولى وأيضًا خطابات الرئيس ياسر عرفات. يوضح جوزيف مسعد كيف أن المرأة ودورها في النضال الوطني الفلسطيني كان في الصف الخلفي للنضال. على سبيل المثال، في إعلان الاستقلال الفلسطيني الصادر عام 1988 في الجزائر ذُكرت المرأة بأنها حارسة البقاء الفلسطيني وحارسة الدائمة. وأيضًا في بيان رقم خمسة الصادر عن القيادة الوطنية الموحدة ذكرت المرأة بأنها إما أم أو أخت أو ابنة.

ويجادل جوزيف مسعد أن دور المرأة الفلسطينية في الانتفاضة الأولى تطور نوعًا ما حيث أصبحت المرأة تشارك في المواجهات مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وأن النساء في فلسطين استطعن تنظيم أنفسهن في اتحاد لجان العمل النسائي التابع للأحزاب السياسية الموجودة، حيث كان لهن دور فاعل في الحشد والتعبئة. ويجادل جوزيف مسعد: بالرغم من وعي المرأة الفلسطينية في النضال الوطني الفلسطيني، إلا أن هذا التغيير كان نابعًا من مقتضيات النضال الوطني نفسه، أو بسبب تغيير أدوار الرجال.

خاتمة

نستنتج من ذلك أن الفكر الوطني الفلسطيني هو انعكاس للمجتمع الفلسطيني نفسه بوصفه مجتمع أبوي، ومجتمع يرتب الأدوار الخاصة بالأنثى والذكر في حياتهم الخاصة، وبالتالي في النضال الوطني ضد الاحتلال. وها هي المرأة الفلسطينية حتى بعد قيام أوسلو، والبدء ببناء الدولة المستقلة، لم تتغير النظرة تجاه دورها في النضال الوطني الفلسطيني ودومًا يحاول الرجال «نصحها» وتوجيه نضالها حسبما يعتقدون بحكم أن الوطن هو الأولوية. ولكننا في الوقت الحالي نلاحظ حدوث تغيرات طفيفة في وعي المرأة الفلسطينية تجاه دورها في التحرر الوطني والاستقلال، ففي سبتمبر (أيلول) 2019 خرج نساء فلسطين في أغلب المدن الفلسطينية والعربية مثل حيفا، رام الله، بيروت، رفح وغزة للتنديد بالعنف ضد المرأة بعد تزايد حالات قتل النساء منذ بدء عام 2019، حيث إن 28 امرأة قُتلت على خلفية الشرف[6]. أطلق النساء على هذه المظاهرات «طالعات»، وهتفن بشعار «لا وجود لوطن حر بدون نساء حرة» كأن النساء الفلسطينيات يرفعن الورقة الأحمر بوجه الرجال المهيمنون على النضال الوطني ويقلن أن الوقت جاء لتتقدم النساء الصفوف الأولى للنضال الوطني الفلسطيني من الاحتلال الإسرائيلي. ويوضح لنا التاريخ فشل ثورات أخرى بنيت على إستراتيجية (الأمة أولًا والنساء لاحقًا)[7].

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

تحميل المزيد