إذا كانت ثورات الشعوب تُسقط الإمبراطوريات والحكومات، فالسلطة الخامسة بإمكانها إسقاط السلطة الرابعة بإمبراطورياتها الكبرى المنتشرة في كافة أرجاء العالم، إذ هي سلطة الشعب التي لا يمكن تقييد حريتها أو التحكم بقراراتها، وبإمكان أغلب أصحابها ومستخدميها التعبير عن آرائهم بحرية في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها من القضايا، ولا يكاد بمقدور أحد تحديد ما تنشره أو مراقبة وفرض قبضتها عليها، في حين يتم تحديد ما ينشر في السلطة الرابعة (إذاعة وتلفزيون وصحف) من أخبار ومعلومات وبرامج، وتمر بما يسمى بحارس البوابة (حارس السلطة) الذي يسمح بإمرار أي مادة يتوافق مضمونها مع اللوائح التي وضعها الممولون والداعمون والقائمون على الوسيلة، ويمنع ما لا يتوافق مع تلك اللوائح والقوانين من أن تعرض المادة الإعلامية سواء على التليفزيون أو الإذاعات أو الصحف، وحتى لو أُتيح المجال والفرصة للتعبير عن رأي الجمهور يتم الإتيان بأشخاص يلقبون بالنخبة، ويتم تحديدهم أو نعتهم بتلك التسميات للتغطية على الصوت الحقيقي للنخبة التي تمثل المجتمع تمثيلًا حقيقيًّا، ولكي يكون المنبر حكرًا على من تتوافق أفكارهم وآراؤهم مع السياسة التحريرية التي تخدم أهداف الداعمين والقائمين على تلك المؤسسات فقط. غالبًا ما لا تعبر النخبة عن  حقيقة الواقع الاجتماعي، لأنه تم تحديد ما ستقوله وفق اللوائح التي سبق وأن اطلع عليها وحفظها ربما عن ظهر قلب، حيث  ثمة خطوط حمراء لا يسمح له تجاوزها، وعليه فإنّ الوسائل الإعلامية التقليدية تكون محصورة بالنخبة تلك فحسب وليس بالإمكان إتاحة المجال للجمهور الحقيقي الذي يشكل بما لا يقبل الشك الأغلبية المطلقة من المجتمع، بالتالي ليس هناك متنفس آخر للتعبير عن الصوت الحقيقي للمجتمع، فكانت مواقع التواصل الاجتماعي المنبر الحقيقي للشعوب والتي أصبح لها تأثير فعال وواضح، بل إنّ بعض المنظرين في المجال الإعلامي يرون المستقبل لهذه السلطة التي يبدو ألَّا منافس لها ولا حدود لتأثيرها بل هي ربما من ستشكل رؤية العالم القادم ومستقبله.

ومن الأمثلة التي تدل على تأثير هذه السلطة في بعض القضايا الحساسة ما يخصّ انتهاكات حقوق الإنسان، والتي تأتي في مقدمتها الانتهاكات التي تحدث بحق الإنسان الفلسطيني من جانب الكيان الصهيوني وأجهزته الأمنية المتسلطة من حرق وقتل وإعدامات دون مبرر لها، حيث يقتل شخص بمجرد الشك، كانت مواقع التواصل الاجتماعي سببًا رئيسًا في تغيير رأي الكثيرين في القضية الفلسطينية، حتى مسّت تأثيراتها أشد المتعاطفين مع الكيان الصهيوني وعبر الصور والفيديوهات التي ينشرها الصحفيون والناشطون في المجال الإعلامي والاجتماعي.

أما عن تأثيرها في صناعة الحدث وبشكل فعّال وسريع، فهذا يبدو واضحًا في حادثة مقتل الطلاب الثلاثة المسلمين في جامعة كارولاينا على يد شاب أمريكي متطرف، فكثير من وسائل الإعلام الأمريكية لم تغطِّ حادثة الجريمة ولم تذهب إلى موقع الحدث للتحقق فيما جرى هناك، والبعض منها اكتفى بعرض خبر الجريمة على الشريط الإخباري أسفل الشاشة، ولم تفرد لها مساحة كافية وكأن شيئًا لم يكن، ربما لأنهم ليسوا أميركيين الأصل ممّا أثار موجة غضب لدى الناشطين في مواقع التواصل الاجتماعي وعملوا هاشتاك ChapelHillshooting# لنشر الخبر، وسرعان ما انتشر الخبر بين المغردين في تويتر وفيس بوك وغيرها من وسائل التواصل الحديثة على الإنترنت، ووصل الهاشتاك إلى الملايين ممّا اضطر وسائل الإعلام الأمريكية للتغطية وإفراد مساحة خاصة لها. لم تكن هذه الوسائل تعطي هذه المساحة لولا ضغوط سلطة الشعب (سلطة مواقع التواصل الاجتماعي)، واستمرت التغطية لأيام وبات خبر الحادثة حديث الناس في الشوارع والمقاهي، وصور الضحايا الثلاثة ملأت الصحف والمجلات، وتصدرت الصفحات الأولى وعناوين الأغلفة.

وفيما يتعلق بالأزمة السورية كان أيضًا لسلطة الشعب دوي صوت يُسمع ودور في نشر خبر وصورة الطفل السوري «إيلان» الذي غرق في مياه البحر المتوسط، عُثر عليه وهو مُلقى على أحد الشواطئ الساحلية في تركيا، وقد قذفته الأمواج إلى السواحل هو وعائلته، وعلى الرغم من أنّ مئات الصور والأخبار تُنشر عن المجازر والجرائم التي يرتكبها النظام السوري كل يوم أمام مرأى ومسمع العام بوسائله الإعلامية تلك، لكنّ الأمر كان مختلفًا تمام الاختلاف هذه المرة، خاصّة بعد أن دشّن الناشطون حملة تضامن مع الطفل السوري والتي لخّصت صورته وهو مرمي على الشاطئ معاناة اللاجئين السوريين إلى أوروبا عبر البحر المتوسط، فكان تعاطف جمهور مواقع التواصل بشكل واسع وبكافة أرجاء العالم أن تمّ على أثره عقد اجتماع للاتحاد الأوروبي لتداول أزمة اللاجئين ومناقشتها في الاجتماعات، وعلى الرغم من أنّ الاجتماعات لم تخرج بقرارت ذات مستوى مناسب لحجم هذه المشكلة التي تواجه دول الاتحاد، ولكنها بلا شك كانت البداية لكسر أحد قوانين الاتحاد الأوروبي ألا وهو نظام البصمة والسماح للاجئين بالعبور إلى الدول التي يقصدونها.

وبالأمس القريب قام الناشطون في مواقع التواصل الاجتماعي بحملة لإيقاف برنامج صبايا الخير لريهام سعيد التي تجاوزت الضوابط المهنية للإعلام، عندما عرضت فيديو لفتاة مصرية تتعرض للتحرش وللضرب بأحد المراكز التجارية من قبل شخص، وقد عرضت صورًا خاصة للفتاة وادّعت أنّ لها علاقة معه، هذه الحلقة أثارت غضب وسخط الجمهور والمغردين في السوشيال ميديا، وقد بادر الصحفي وائل عباس بإطلاق حملة لإيقاف البرنامج عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وإطلاق هاشتاك #ريهام_ماتت #وموتي_ياريهام على تويتر ولاقت هذه الحادثة رواجًا كبيرًا عند ملايين المغردين تضامنًا مع الفتاة لإيقاف البرنامج ودعوة المموليين لسحب تمويلهم من البرنامج، وقد استجابت أربع عشرة شركة تدعم البرنامج لطلب جمهور مواقع التواصل الاجتماعي وسحب تمويلها منه، وبعد ذلك أصدرت شبكة النهار الإعلامية بيانًا بإيقاف البرنامج استجابة لمطلب الجمهور في السوشيال ميديا.

لعل آخر قرار اتخذته السلطة الخامسة وهو الأغرب إطلاقًا من حيث شكله وشدة قوته وتأثيره، إطلاق حملة استمرت ليومين لإيقاف برنامج ذا كوين أو الملكة لمقدمته الفنانة أحلام عبر وسم #إيقاف_ ذا_كوين_مطلب_شعبي. عندما رأى الجمهور بأنّ البرنامج يهين الشباب ويذلهم عبر عرضه الفنانة أحلام ملكة تتربع على العرش بطريقة توحي بأنّها الملكة والمشاركون ليسوا سوى حفنة متوددين يحاولون استرضاءها والتقرب منها. كان أنْ استجابت قناة دبي بشكل مفاجئ لمطلب الجماهير عبر تغريدة في تويتر نصّها (نزولًا عند رغبة المشاهدين ومراعاةً لمطلب الجمهور، تعلن قناة دبي عن إيقاف بث برنامج #ذا_كوين)، وجاء اليوم الذي أصبح بمقدورنا أن نقول: لا سلطة بعد اليوم تعلو فوق سلطة الجمهور، الذي أصبح بإمكانه إسقاط أيّ برنامج من برامج السلطة الرابعة لا يرغب به أو يعارض مضمونه قيم المجتمع ولا يراعي المعايير المهنية والخصوصية الشخصية.

نحن إذًا أمام سلطة قوية لا تحدّها حدود جغرافية، وتتفاعل مع الأحداث وتشارك في صناعته ولا تقتصر على الدور السلبي كمشاهد أو مستمع أو قارئ فحسب، وإنّما تتفاعل مع الأحداث تفاعلًا مؤثرًا عكس الذي يحصل مع الوسائل الإعلامية التقليدية التي غالبًا ما تعرض الذي تريده وتتغاضى عمّا لا تريده بغضها الطرف عن بعض الأحداث بسبب ضغوط الحكومات، أو نزولًا عند رغبة شركات الدعم العملاقة والقائمة عليها، فالسلطة الخامسة غالبًا ما تمارس دورها في التعبير بكل حرية دون أن تتعرض لضغوط من أحد، وإن حاولت بعض الحكومات حجبها كان هناك عشرات البرامج لفك هذا الحجب، لذا فهي سلطة رقيبة على السلطة الرابعة وتهز عروشها وإمبراطورياتها هزًّا، وتحاسبها إذا تجاوزت الضوابط المهنية للرسالة الإعلامية جاعلة إيّاها تذعن بصغار وتحسب لها ألف حساب عند القيام بأية خطوة لإنتاج مادة إعلامية.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد