يظن البعض أن الفقه هو جزء لا يتجزأ من الإسلام وكأن الله هو الذي أنزله، خصوصا وأن معظم كتب التراث الدينية هي كتب فقهية.

ولكن الحقيقة أن الفقه كعلم ظهر بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بمائتي عام، وأنه لم يتحول إلى علم ذي قواعد إلا بعد أن وضع الشافعي كتاب (الرسالة) في أصول الفقه، أي بعد ما يقرب من ٣٥٠ عامًا من ظهور الإسلام. والفقه عمل بشري ناتج عن فهم المتخصصين في الإسلام ليستخرجوا أحكامًا يظنون أنها توافق إرادة الله وذلك من خلال استنباطها أولا من كتاب الله (مع ملاحظة أنهم يعتمدون على فهمهم لكلام الله حيث لم ينزل الله تفسيرًا لكلامه ولكنه ترك للبشر مهمة تفسيره فمنهم من أصاب ومنهم من أخطأ، وبالتالي فمنهم من سيصل إلى أحكام صحيحة ومنهم من سيصل إلى أحكام خاطئة).

ثم اعتمد الفقه على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يشتمل على وحي إلهي في بعضه، وعلى تفكير بشري رسولي في بعضه، وفي الحالتين هو يخضع لعقول البشر القاصرة المختلفة؛ سواء في روايته أو في نقله أو في الحكم على صحته أو في فهمه وتفسيره.

ثم اعتمد الفقه بعد ذلك على الطبيعة البشرية حيث جعل من المصادر التي يعتمد عليها في الوصول إلى أحكامه مثل إجماع الأمة والقياس العقلي والمصادر المعتمدة على الشعور البشري كالاستحسان وسد الذرائع والعرف وغيرها من مصادر التشريع.

وبهذا يتضح أن الفقه عمل بشري من بدايته إلى نهايته، وهذا لا يقلل من شأنه ولكنه أيضا ينزع عنه القداسة حيث أنه في النهاية عمل بشري يحتمل الصواب والخطأ، بل ويحمل بذور التغيير في داخله حيث يكون صوابًا في عصر ثم يكون واجب التغيير في عصر آخر لتغير الظروف والبيئة المحيطة.

ولقد نشأ الفقه لضرورة مُلِحَّة فرضتها ظروف عصره حيث كان المجتمع يستعد للانتقال من مرحلة مجتمع القبيلة إلى مرحلة تكوين الدولة، وبالتالي فإن هذه الدولة التي قامت على أعمدة الإسلام كان لابد أن تستقي منه قوانينها، والتي سميت بالمذاهب الفقهية بعد ذلك، وبالتالي لم يقتصر الفقه على الأحكام المتعلقة بالقضايا الدينية الأخروية ولكنه توغل في حياة الناس اليومية.

 

بل وربما تدخل بين الإنسان ونفسه، لذلك فلابد من الاعتراف أن الفقهاء قدموا خدمة جليلة للإسلام والمجتمع حيث ساعدوا في تنظيم الإسلام ووضع قواعد واضحة له تمنع تحريفه وتبديله خصوصًا مع اتساع رقعة الدولة الإسلامية، مما يعني دخول الكثير من الثقافات الخارجية والتي يمكن لها التأثير على الفكر الإسلامي النقي ومن ثم تعريضه لخطر التحريف والتبديل.

 

ومع مرور الأزمنة وتوالي الأجيال وتغير الظروف والأحوال بدأت تظهر سلبيات الفقه التقليدي، والتي منها:

 

١- رغبة الفقهاء في إخضاع كل تفاصيل الحياة إلى الفقه حتى ظنوا أن عليهم أن يجدوا حكما فقهيا لكل تفصيلة من تفصيلات الحياة، مما شعب الأحكام تشعيبا لا نهائيا وأظهر الدين وكأنه يهتم بالسطحيات والتفصيلات الدقيقة والأمور السطحية، حتى بات المسلم يسأل في أدق تفصيلات حياته ولا يستطيع أن يخطو خطوة إلا بعد أن يستفتي فيها شيخا

وهذا التفصيل بالطبع أدى لكثير من السلبيات الأخرى حيث أدى لتكوين طبقة من محتكري الحديث باسم الدين تخضع لها جميع القوى وتتحكم في حياة البسطاء، مما جعلهم طبقة لها امتيازات خاصة تصارع للحفاظ عليها ولو بموالاة الظالمين، وبيع الدين لمن يدفع، وبالتالي كانوا يحاربون كل صيحة تدعو للتجديد والإبداع والخروج على قواعدهم، وانطلقت حروبهم تلك لا محافظة على الدين، ولكن محافظة على مصالحهم ومصالح طبقتهم.

كما شغل هذا التفصيل المبالغ فيه العامة؛ فصرفهم عن روح الدين وجعل الدين مجموعة من الأحكام الجامدة الخالية من الروح مما انعكس على تعامل الناس بالدين حيث تمسكوا بتنفيذ هذه الأحكام الشكلية وأرواحهم خربة، فظهر التفاوت الواضح حيث انفصل الدين عن الحياة، وصار من يظهر بمظهر الدين لا يعبر عن مضمون الدين نفسه.

كما أن كثرة هذه التفاصيل جعلت الأحكام الفقهية تميل إلى التذوق البشري المتباين مما أظهر لنا في كل قضية من القضايا مجموعة من الأحكام المتناقضة.
فنجد في الشيء الواحد أنه حلال وحرام ومكروه في نفس الوقت، ولأجل أن يخفوا هذه السلبية حاولوا إقناعنا بأن اختلاف العلماء رحمة؛ رغم أن هذا الاختلاف ناتج عن دخول الفقهاء إلى معترك ليس بمعتركهم، وأنهم أرادوا أن يكون لهم رأي في كل قضية حتى وإن كانت أمرا تفصيليا ذوقيا يختلف البشر في تذوقه وفقا لبيئاتهم وأذواقهم وعقولهم، فلماذا يتدخل الفقه مثلا للحكم على طريقة حلاقة الشعر واختيار لون الثياب؟

٢- ومن سلبيات الفقه التقليدي أيضا الجمود والماضوية؛ حيث فرض رؤية السابقين للعالم وجعل منها ثوابت دينية معلومة من الدين بالضرورة.

وكان الانبهار بالسابقين سببا في تجميد الفقه عليهم باعتبارهم هم الأجدر بفهم الإسلام لأنهم الأقرب لوقت نزوله، مما دفع إلى تجاهل تغير الزمن فتم رفض تاريخية الأحكام والنصوص باعتبار أن النص بتطبيقه المباشر صالح لكل زمان ومكان.

مما دفع لرفض كل المحاولات الفقهية التجديدية التي تهدف إلى إعادة قراءة النصوص قراءة عصرية خوفا من تأثير ذلك على أصالة الإسلام، وهو خوف مشروع لأن هذه القراءة العصرية قد لا تفرق بين ثوابت الدين وبين ما يمكن تأويله وتغييره وفق المقاصد العامة للإسلام، ولكن ذلك أدى إلى الإحجام التام عن أخذ أية خطوة نحو تجديد الفقه مما يعرض الإسلام لخطر آخر هو مفارقة العصر.

فأين ذلك الفقيه الذي يستطيع مجاراة العصر والحفاظ على أصالة الإسلام في ذات الوقت؟

٣- سلبية أخرى هي الصرامة المنطقية للقواعد الفقهية، وأقصد بها أن الاعتماد على قواعد المنطق العقلية الصماء والتي تستهدف سد كل الثغرات؛ هي تقدم فقها خاليا من الروح حيث صار الفقه خاليا من روح الفقه.

 

وصارت الأحكام مباشرة دون مراعاة للحالة الخاصة لكل ظرف، وإن كان حل هذه المعضلة يكمن في التفريق بين الحكم العام والفتوى الخاصة ولكن الفارق بين الأمرين بات باهتا بعدما اتسعت وسائل الاتصال وانتشرت مظان العلم، ومن ناحية أخرى فإن هذه الصرامة الرياضية جعلت الناس يتعاملون مع الأحكام الفقهية كأنها حسابات رياضية فاختلت فيهم روحانية الدين، فتجد منهم من يتقن حركات الصلاة وقلبه خرب غير خاشع وتصرفاته وتعاملته مجافية لصلاته.

 

 

٤- ومن السلبيات أيضا تقديس أهل الفقه وآرائهم حتى صار التساؤل الساخر لكل من يتجرأ لمخالفتهم هو: وهل ستفهم أنت أفضل من الشافعي أو ابن حنبل؟

أو: من تظن نفسك لتخالف النووي؟ دون أن يلتفت من ألقى هذا السؤال الاستنكاري إلى اختلاف العصر والظروف مما يعني بالضرورة مخالفة الأقدمين؛ لا للعلو في العلم عليهم ولكن لتغير الظروف.

 

فإذا عدت للسؤال الأول: الفقه.. هل هو ضرورة؟

لقلت أن الفقه ضرورة باقية بقاء الدين نفسه ولكن لابد من إعادة النظر في أسلوب التعامل معه، وقد يكمن هذا الأسلوب الجديد في النقاط الآتية:

 

١- تبسيط الأحكام المتعلقة بالعبادات دون التكلف في اتباع كل صغيرة وكبيرة فيها، وعدم الدخول في قضايا شكلية لا تقدم أو تؤخر، مع الحرص على تضمين الجوانب الروحية في ثنايا تلك الأحكام حتى لا ينفصل الفقه عن روح الإنسان، فلا يصير الدين طقوسا شكلية لا مردود لها.

 

٢- الكف عن التدخل في كل تفاصيل الحياة وتركها لأهل الذكر والاختصاص ما لم يصطدم رأيهم بنص قرآني لا يحتمل تفسيرًا أو تأويلا، فإذا اصطدم رأيهم بمثل هذا النص تعاد دراسة القضية من قبل المتخصصين وعلماء الدين حتى الوصول لحل نهائي، مما سيضفي مرونة على النص الديني، ومما سيشكل دافعًا لعلماء الدنيا للبحث والعمل.

٣- إعادة صياغة المقاصد الفقهية، فتغير العصر بالتأكيد يضيف مزيدًا من مقاصد الدين. فبعدما كانت هذه المقاصد هي حفظ الدين والنفس والمال والعرض والعقل، فسنجد الحاجة لمزيد من المقاصد كحفظ حرية الرأي والتعبير والإبداع، وحفظ الكرامة الإنسانية، وحفظ الحقيقة العلمية مثلا.

 

٤- الابتعاد عن القضايا الفردية الشخصية للتسامي على التفاصيل المتشعبة التي أرهقت كاهل الدين، وتركها للفطرة الإنسانية مع توفير المناخ المناسب لهذه الفطرة كي تنمو نموًا طبيعيًا، فلا ينشغل الفقه بحاجب المرأة، ومواعيد الجماع المناسبة، ولون الصبغة التي يستخدمها الفرد.

٥- الاسترشاد بالتراث الفقهي مع عدم تقديسه، وقبول إمكانية تغييره بتغير الظروف، فليس من المناسب أبدا أن ننشغل الآن بأحكام الجواري ولباسهن، وأحكام الاستنجاء بالحجر وأوراق الشجر.

 

٦- الكف عن إثارة القضايا التي لا طائل من ورائها، كحكم من يصلي على خشبة مثبتة على سقف الكعبة وخارجة عن بنائها، أو كيفية التوجه للقبلة داخل الكعبة مع انفتاح بابها، أو حكم الطهارة إذا ما انفتحت بطن أحدهم وخرج البراز منها (وكلها قضايا فقهية تم الحكم فيها عند من سبق).

 

إن الفقه وإن كان يشكل نظامًا هامًا لحياة الفرد في الإسلام، إلا أنه صار أيضا سوطًا في يد المؤسسة الدينية ترهب به كل من يهدد سطوتها أو يحاول كبح جماحها، ولذلك فلأنها تعلم أن وجودها من وجوده بشكله التقليدي، وأن سطوتها في تقديسه، فهي تقف أمام كل محاولة لتجديده بإلقاء اتهامات التكفير والتبديع والجهالة على كل من يحاول الخروج عن الخط التقليدي.

ولكن عجلات العصر قاسية وهي ستسحق كل المتجمدين مكانهم، وإما أن نحاذيها أو نعرض إسلامنا إلى خطر بات واضحًا في هؤلاء الشباب الذين باتوا يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية؛ لأنهم يتوهمون أن الدين يجافي العصر.

فهل سنتحرك؟

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد