إذا نظرنا إلى الأديان الكبرى في العالم لوجدنا أنها رغم اختلافاتها الكثيرة فيما بينها والتي تصل إلى حد التناقض إلا أننا سنجد أن الصوفية هي عامل مشترك بينها جميعا، وأن كل هذه الأديان تحمل في طياتها توجها صوفيا يأخذ به البعض ويتبعه وينكره البعض الآخر، فما سر هذا المشترك رغم الخلاف الواضح ؟ .. ذلك السر يكمن في أن الصوفية في حقيقتها هي حالة.

هي حالة يشعر بها الإنسان المؤهل لها ويعيشها، ولذلك هي ليست متاحة للجميع حيث أن البعض ربما لا يجدون في أنفسهم الملكات والسمات التي تمكنهم من الشعور بهذه الحالة، والتي إذا تجذرت في نفس الصوفي تتحول إلى أسلوب حياة، ولأن البشر يختلفون في أساليب حياتهم لذلك فليس لزاما على كل متدين أن يكون صوفيا، ولكن هناك مجموعة من البشر تجد أن الصوفية هي أسلوب الحياة الذي ترتاح له ويمكنها أن تنظر إلى الحياة من خلال منظاره.

ولابد هنا من التنبيه على أن هذه الحالة الصوفية تختلف تماما عما أصاب الصوفية على يد بعض أتباعها من شطحات ولوثات أخرجت الحالة عن مضمونها، فالصوفية كمصطلح بريئة من الاستخدامات السيئة التي حدثت باسمها، فالصوفية لا تدعو إلى التقديس المبالغ فيه لبعض البشر، ولا ترك العبادة، وإنما هي في خلاصتها حالة من الحب يتوجه بها الصوفي إلى الله فيحبه، وإلى بقية البشر والمخلوقات حتى الجمادات .. لا أكثر ولا أقل .. فمن استخدم هذا الحب في الحسنى فله إحسانه ومن أساء به فعليه إساءته، ولا تحمل الصوفية من إثم ذلك شيئا .. فإن وجدت في نفسك شيئا تجاه الصوفية وتأثرت سلبا بما يثار حولها، فلك أن تسميها بأي اسم آخر تأخذ معه فائدتها وتطرح عن كاهلك ما ترفضه منها، فلتسمها الحب الخالص، أو محبة الله والخلق أو سمّها الأخلاق حتى لا تمنع عن نفسك جمال الحب وخيره.

فالصوفية قال فيها الجنيد (ليس التصوف بكثرة صيام وصلاة، بل بطمأنينة القلب وتسليم الروح)، وقال أيضا (ليس التصوف رسوما ولا علوما ولكنه أخلاق)، وقال النوري (من زاد عليك في الخلق زاد عليك في التصوف)، وقال الحارث المحاسبي فيه (الحب الصوفي معناه دخول صفات المحبوب على البدل من صفات المحب)، وقال عنه سمنون (المحبة أصل طريق الحق تعالى وقاعدته)، وغيرها الكثير من أحاديث الصوفيين والتي في أغلبها تدور حول حب الله وضرورة التحلي بصفاته العلية والأخلاق القويمة.

وطريق الصوفية متسع رحب، يسمح لمن أراد بالسير فيه بالطريقة التي تبدو للسالك مناسبة ومتفقة مع حاله ونفسيته، ولذلك تعددت الطرق التي بها يستطيع السالك في طريق التصوف أن يقطع الطريق نحو الحب الإلهي، ولذلك قيل في تعريف التصوف أنه (بعدد أنفاس الخلائق) أي أن كل إنسان يمكن أن تكون له طريقته الخاصة التي يصل بها إلى حب الله الخالص، وقد يجد السالك نفسه ينتقل بين هذه الطرق جميعها طالما يجد في نفسه الراحة فيها، فالهدف هو الوصول لحب الله، أما الوسيلة فهي متروكة للسالك نفسه، ولكن يمكننا أن نجمع بعض النقاط المشتركة التي تبين لنا بعض الخطوط العريضة لبعض الأساليب التي تمكنا من الوصول إلى مثل هذا الحب، ومن هذه الأساليب:

1- المحبة

صحيح أن المحبة هي الهدف النهائي لكنها هي أكثر الوسائل التي اتفق عليها كثير ممن سلكوا الطريق إلى الله، فالله هو الحب الخالص، والصوفي هو الذي يتوجه بالحب للجميع، فهو يحب الله بلا شرط، ويحب الناس جميعا فيعمل على خيرهم وسعادتهم ويلتمس لهم الأعذار في أخطائهم، يجبرهم في كسرهم ويقويهم في ضعفهم ويرحمهم في عثرتهم ويتوجه لهم بالخير في كل حين، وهو كذلك يتوجه بالحب لنفسه حيث يقبل نفسه ويلتمس لها الأعذار فلا يحتقرها ولا يهينها بل يقدّر نفسه لأنها من خلق الله، فيؤدبها بأدب الحب ويقبل ضعفها باللين والرفق.

2- الجمال

تذوق الجمال هو أحد الأساليب الأكيدة التي تمكن الإنسان من الوصول إلى حب الله، فيتجه الصوفي ليتذوق كل جمال بطريقته، فيتجه للتفكر والنظر في الطبيعة وجمالها، فيرى جمال الورود، وتسبيح الأشجار، ورقة الطيور، وسحر السماء، فيرى في كل مخلوق حوله آية تدل على جمال الخالق مما يشعل في قلبه شرارة حب خالقه، وهو يتجه إلى الفنون فيتذوق منها ما يزيده جمالا ومحبه، فتأسره الموسيقى ويخلبه الرسم الرقيق، ولذلك نجد عند الصوفية حبا للسماع (يقصدون به الغناء والموسيقى) وميلا نحو التمايل على النغمات حتى أن طرائق من الصوفيين قامت على هذا التمايل كالمولويين أتباع مولانا جلال الدين الرومي الذين جعلوا من دورانه حول نفسه رقصة تقربهم من الحب الإلهي، ولهذا فإن تذوق الجمال هو أحد الوسائل الأكيدة التي تهيئ القلب لتلقي فيوضات النور الإلهي المليئة بالمحبة.

3- الزهد

وقد اختلف الصوفيون في تعريفه اختلافا متباينا، فمنهم من اعتبره ترك الدنيا تماما وملذاتها وأخذ النفس بالشدة وتفضيل الفقر والجوع للتخلص من شهوات الدنيا المعطلة لهم عن مسيرتهم تجاه الحب الإلهي كإبراهيم بن أدهم مثلا، وهناك من وجد أن الزهد ليس في ترك التمتع بنعيم الدنيا ولكن بالتمتع بها دون أن يكون لذلك أثر على قلب الصوفي فلا يتعلق بالفاني وإنما يستمتع بالنعيم الذي خلقه الله له وذلك مثل رويم المعاصر للجنيد، وليس هناك من يستطيع أن يجزم بأي الطريقين أصح ولكن هذا متروك لكل سالك صادق مع نفسه يعلم حقيقة نفسه ويعلم ما يحتاجه كي يربيها ويصل بها إلى نور الحب الإلهي، ولكن في النهاية يكون الزهد هو أحد الوسائل التي تجعل من الصوفي تابعا مخلصا ومحبا حقيقيا لله دون أن تؤثر الدنيا على مسيرته فتقطعها بمتغيراتها ونعيمها.

4- العبادة

حيث يتوجه فيها الصوفي إلى ربه مباشرة، وقد تبدو العبادة وسيلة مرهقة وصعبة ولكنها عند الصوفي هي لحظة الراحة التي يتذوقها وسط سعار الدنيا اللامتناهي لذا يحاول ملازمتها قدر الإمكان، ولا يبتعد عنها إلا رغما عنه، ويدخل في باب العبادة الصلاة وتدبر القرآن والذكر المتواصل وكذلك الخلوة حيث يختلي الصوفي بربه فتحلو المناجاة حتى يصل إلى درجة الأنس بالله فلا يشعر بالوحدة بعد أن شعر أنه في خلوته صار في معية الله، فمن وجد الله فماذا فقد؟

5- الأخلاق

حيث يضع الصوفي صفات الله نصب عينيه، فيعمل جاهدا على أن يتخلق بهذه الصفات، ويكون دليله على ذلك التوجه بالخير إلى جميع المخلوقات، فالله لا يأتي إلا بخير، والمتخلق بصفات الله هو الذي لا يصيب المخلوقات منه إلا كل خير، والخير علامة الحب، فمن قدم الخير للناس وقر الحب في قلبه وصار كائنا من حب، ومن صار حبا فهو مع الله لأن الله هو الحب.

هذه أبرز الطرق التي يمكن من خلالها الوصول إلى نور الحب الإلهي، وهي الأقدام التي يستطيع الصوفي أن يمشي بها نحو الحب الإلهي إذا استطاع أن يعي أن الطريق إلى الله مليء بالحواجز التي قد تعطله عن الوصول من شهوات ومنافع، وغرق في تفاصيل ومجادلات لا قيمة لها، وخصومات لا تنتهي ورغبات بلا نهاية، إن طريق الحب رحب فلا تضيقوه.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد