قد يحزنك عزيزي في بحثك عن دولة العدل، ما قد تجده من تشابه في أمور بين ثورتين يباعد بينهما الزمن وتقارب بينهما المحن.
شكلت بعض الأعمال الأدبية جسرًا بين الماضي والحاضر، مذكرات الأسطى حنفي العربجي لا تقل أهمية عن كتابات جورج أورويل أو لوبون.
نشرت مذكرات عربجي تحت اسم مستعار “الأسطى حنفي”، في مجلة الكشكول في عام 1922، لترصد متغيرات المجتمع بعد ثورة 1919 – بسخرية لاذعة ووعي ناضج- المتلونين ومتسلقي الثورة والانتهازيين. دعنا نقرأ مقتطفات من مذكرات الأسطى حنفي أبو محمود “العربجي”.
يحكي الأسطى حنفي في مذكراته عن بعض (الزبائن) قائلاً:
إذا كان البيه “نص لبة” فانتظر منه أن يتدخل معي أو مع من هو في صحبته في كل شيء في السياسة وفي الأخلاق والآداب والغراميات وصلاحية الفول عن البرسيم بالنسبة للبهايم.
وإذا توقفت لخدمة شاب من شباب العصر الأغنياء فيجب أن أتحمل ممن يسيرون وراءه من سكرتارية وهواشين وأونطجية أصحاب النكت الباردة والتعرض لما لا يعنيهم. وأما إذا كنت مما غضب الله عليهم وحنن عليك بنفر من جنود جلالة الملك (أيام الحرب طبعًا) وأمروك بتوصيلهم إلى ضاحية من ضواحي (العباسية). وإذا خطر لك أن تتعرض لأحدهم طالبًا حقك أعطاك إياه لكمًا ورفصًا، وجعلك تتعلم آداب المطالبة بطريقة إنجليزية.
ويستمر الأسطى حنفي في رصد الانتهازيين وجلدهم (بكرباج) السخرية:
في هذه الأيام – يقصد أيام الإضرابات والاعتصامات العمالية- جمعتني الصدفة بالأستاذ (المقلفط) تشريفاتي استقبالات معالي الرئيس (سعد باشا) وسكرتير لجنة استقبال دولة الرئيس (عدلي باشا)
وخطيب وفود دولة الرئيس (ثروت باشا) هل عرفته أيها القارئ : إنه (مثال القوة الناطقة من غير إرادة سابقة)، ألم تعرفه بعد؟ إنه أحمد بك الشيخ بطل مجلس المديرية في إقليم الغربية.
ظهر صاحبنا على ما أظن في الأيام الأخيرة، فيصل إلى رتبته عن طريق مجلس المديرية، وعرف كيف يظهر على صفحات جريدة الأهرام “باللت والعجن “، وأخيرًا بالدخول في غمار (ليحيى الاستقلال). ابتدأت حياته السياسية “بلا رئيس سعد”، ثم تحول إلى صيحته “عدلي فوق الجميع”، ثم ظهر في خطبته بعد ذلك أن “لا حياة إلا لثروت”، وهناك وقف لأن (الثالثة ثابتة) والله أعلم أن المسألة ستنتهي على ما يرى نظري القصير (بلا رئيس إلا ما تقتضيه الأحوال). ركب معي من بار اللواء وقد كان خارجا من إدارة الأهرام وربنا يسامح ( داود بك بركات ) نادى صاحبنا بصوته الرنان الذي يصلح لترتيل سورة الكهف يوم الأحد:
فاضي يا عربجي سوق علي بيت سعد باشا، وسكت ثم قال: بسرعة مفيش وقت، فلهلبت الخيل وفي أقل من لمح البصر كنت أمام بيت الأمة، نزل البك بدون أن يدفع الأجرة فانتظرت ومرت ساعة بدون أن يخرج فضيلته، وضاع مني زبائن كثيرة. أخيرًا طلبت بواسطة أحد الخدم أجرتي لأنصرف على الأقل فاخبرني أن أحمد بك ليس له أثر في بيت الأمة. كيف زاغ كيف خرج؟!
وأخيرًا خرج فراش معالي الرئيس ودفع الأجرة أكثر مما استحق، وهكذا كان بيت الأمة يدفع من مال الأمة (لجدعان القضية الوطنية) حتى أجرة عرابتهم. تصادف بعد ذلك أني قابلته مرارًا بعد ذلك، وأذكر من أطيبها موقفه أيام كان الخلاف بين معالي سعد باشا ودولة الرئيس عدلي باشا وأحمد بك، المعروف في دوائرنا نحن إنه سعدي صميم. ناداني في ميدان الأوبرا وقد كان ساهمًا مفكرًا، وقال لي بصوته الرخيم: سوق على بيت سعد باشا، لا يا أسطى بيت عدلي باشا أيوة، أنا قولت لك سعد باشا.
فظننت ولست من أولياء الله إنه يريد بيت الأمة، وما فهمت أنه يستفهم مني بسؤاله الأخير، فما وقفت أمام بيت سعد باشا إلا وأحمد بك قد رفع الكبوت وهو يقول بصوت منخفض ولكن بحدة:
– يا ابن… أنا قولت لك بيت عدلي باشا مش سعد باشا، سوق بلاش فضيحة الله يفضحك يا غبي، فسرت وأنا أضحك في سري.
أضحك لأن وجود هذه الشخصيات الجوفاء على مسرح السياسة في كل أمة لازم لتفريج الهم عند نزول الضيق.
وبعدما أوصلته سرت، وأنا متأكد أن الأزمة ستنفرج (زي كل أزمة) وستنجلي عن رئيس آخر غير عدلي باشا طبعًا، وسيكون من يوصل أحمد بك إلى نزل صاحب الدولة الجديد.
محسوبكم/
الأسطى حنفي أبو محمود العربجي
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست