الأدب وعاء لكل أفعال الإنسان وممارساته. فحينما يحب يدور بين رحى كتابة خواطره أو ينظم الشعر حتى لو كان قليل الحيلة في نظمه.

فلم يجد مجالاً واسعًا كالأدب بأنواع فنونه ليسع أفعاله من فرح وشقاء وضيق صدر وغزل في محبوبته ورثاء أو مديح لمن يدورون حوله وكان قلبه لهم خير حافظ.

لكن هل يتسع الأدب لنشاط يبذله الإنسان ككرة القدم؟!


في الحقيقة، لم تنل تلك الفكرة رضا بعض الأدباء ونالت على الضفة الأخرى رضا أدباء آخرين. فمن جانبه قام الناقد والشاعر الأرجنتيني بورخيس برفض الفكرة من جذورها وندد بإنجلترا وصرح في حقها قائلاً: إن كرة القدم من أفدح جرائم إنجلترا. وفوق ذلك وضع مواعيد محاضراته عام 1978 حيث كانت الأرجنتين تشارك في مونديال كأس العالم في ذلك الوقت.

 

أما عن الضفة الأخرى، كان هناك نجيب محفوظ الأديب المصري الذي حصل على جائزة نوبل عام 1988 شغوفًا برياضة كرة القدم وكان يحدد لها وقتًا محددًا وخاصًا لممارستها وصرح بذلك في أحد حواراته التليفزيونية.

 

وكان هناك أيضًا جابريل غارثيا ماركيز لاعبًا في فريق أتلتيكو جونيور الكولمبي، قبل أن تحوله إصابة في بطنه إلى مجرد مشجع للفريق. يسطر غاليانو أسماء العديد من لاعبي كرة القدم العالمية، الذين يعتقد أنهم الأفضل في تاريخ الكرة، مارًا على تاريخهم الحافل بالإنجازات أمثال بيليه، مارداونا، فارنز بيكنباور، وغارينشا المعاق، الذي أصبح أشهر جناح أيمن على مر تاريخ كرة القدم العالمية.

 

فكلاهما كان محبًا لرياضة كرة القدم لكن على الرغم من ذلك لم يضمن أي منهم كرة القدم في أدبه وكتاباته. فجاء الأديب الأروغواني إدواردو غاليانو شغوفًا بكتابة مؤلف رياضي بطريقة أدبية فلسفية، حيث عبر بقلمه ما لم يستطع تقديمه بقدمه في ملاعب كرة القدم. فحالت قلة موهبته دون تقديم أي شيء يومًا ما. فكتب عن كرة القدم بوصفها لعبة تتكلم بجميع اللغات وتطلق الأهواء وتلهب المشاعر.

فبدأ بتعريف مكوناتها بطريقة غلب عليها الطابع الفلسفي الشاعري القريب إلى الأدب أكثر من الرياضة، حيث وصف كرة القدم كرياضة تشبه رحلة حزينة من المتعة والواجب، واللاعب كالراكض خلف المجد في جانب، والمنتظر هوة الدمار في الجانب الآخر، منتقلاً إلى حارس المرمى الذي أطلق عليه لقب الشهيد لما يتحمله من عبء غير جميع اللاعبين.

 

ووصف ملعب كرة القدم بالمعبد الذي تُمارس فيه طقوس العبادة، ونجم كرة القدم الذي يتحول لمومياء حال اعتزاله كرة القدم وشعور المشجع بالصرع والحماس لحظة دخول كرة القدم مرمى المنافس الآخر. وعن حَكَم المباراة الذي اعتبره ديكتاتورًا على أرضية الملعب لا يمكن مخالفته أو الخروج عن طوعه.

 

وقدم غاليانو في مؤلفه الرياضي تاريخ كرة القدم منذ بدايتها في الصين ثم أوروبا ثم الأمريكتين ثم مرحلة اعتبار كرة القدم مخالفة لقواعد الكنيسة في إنجلترا في عهد الملكية انتهاءً باعتبارها لعبة المجانين في الأرجنتين ومعشوقة لشعب التانغو (البرازيل).

 

ولم يغفل غاليانو عن ذكر ألبير كامي الذي كان حارسًا لمرمى نادي جامعة وهران والذي صرح يومًا بقوله: تعلمت من تلك اللعبة أن الكرة لا تأتي مطلقًا نحو أحدنا من الجهة التي ينتظرها منها.

ألبير كامي يظهر في الصورة وهو يلعب مع نادي جامعة وهران

وعبر غاليانو عن حالة الصرع والوهم والبؤس والشقاء وتلك المشاعر التي تمتلئ بها قلوب مشجعي كرة القدم أثناء مشاهدتهم لمبارياتها حيث يصير الوهم ممكنًا. وتدفع أحدهم للغنى والثراء أحيانًا وللفقر أوقاتًا أخرى. حيث باتت كرة القدم مرتبطة بالاقتصاد والسياسة وتتحكم في كثير من الأوقات في اقتصاد الدول وتسير معظم الدول الكبرى الآن إلى الاعتماد على كرة القدم كأحد مصادر الدخل القوية كإنجلترا وإسبانيا والبرازيل وألمانيا وأخيرًا اليابان التي باتت قريبة جدًا من إدخال أحدث التكنولوجيا من ناحية التصوير والإعلانات وتسويق اللاعبين ووضع خطة للتتويج بكأس العالم 2050.

 

واختتم غاليانو كتابه قائلاً: ستبقى كرة القدم، لها سر وإعجاز، وشغف وشوق، وأبقى أنا مع تلك الكآبة التي نشعر بها جميعًا بعد الحب وعند الانتهاء من المباراة.

 

أما حديثًا في هذه الأيام، فقام اللاعب السويدي زلاتان إبراهيموفيتش بنشر كتابه عام 2013 بعنوان (أنا زلاتان إبراهيوفيتش المذهل) عبر عن فترات حياته في ملاعب كرة القدم وكأنه يحكي حكاية لأصدقائه وكان كتابه من الكتب الأفضل مبيعًا.
وعزم أيضًا أفضل لاعب في العالم كريستيانو رونالدو عن عزمه أيضًا لكتابة سيرته الذاتية يستعرض فيها حياته في الملاعب بأدق التفاصيل.

 


وفي العام نفسه نشر أندريا بيرلو لاعب المنتخب الإيطالي كتابه بعنوان (أنا أفكر.. إذن أنا ألعب) ونُشر مكتوبًا بأسلوب أدبي، وذو طابع فلسفي أيضًا.

 

ولا يزال الأدب وعاء لكل ما يدور في قلب وعقل الإنسان مهما كان نشاطه ينم عن عاطفة أو فكر أو نشاط بدني. فلا يجد البشر مهما كان نشاطهم مفرًا سوى التعبير عما يدور بداخل ذواتهم عن طريق الأدب وفنونه.

 

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد