لم يكن هناك بُدٌّ من المحاولة رغم تكرارها لعشرات، بل لمئات المرات، وكنت في كل مرةٍ أجدني وحيدا أنتظر تلك السفينة التي لن تمر، ولكنني رغم قسوة الوحدة ما زلت أومن بحبال الأمل التي تسري في داخلي، وإن كنت قد تعبت من الوقوف بعيدا على حافة الكون، أتأمل كل يوم شروق الشمس وغروبها، فأرى تلك الطيوف التي تملأ المدى من بعيد ويزدحم بها المكان لكنها كسراب كلما اقتربت منه اختفى، وكأنه قد كُتب علىَّ أن أبقى شريدًا على ضفاف الغياب.

ما زلت أتذكر تلك اللحظات الأولى في رحلتي والتي بدأت منذ ما يزيد عن 30 عامًا، وتلك الرفقة التي ملأتني بالحب وغمرتني بالحنان وأثرت حياتي بالسعادة، حيث كنا ننام بلا تفكير لما سيحدث في الغد، بقلوب صادقة وأفئدة صافية، ونصحو مع زقزقات العصافير وصياح الديكة نسابق الريح على من يصل للمسجد أولا لصلاة الفجر، ثم نعانق نسيم الصباح بأرواحنا، ونغسل أيدينا بقطرات الندى ونعطر ملابسنا برائحة الزهور، ونتسابق على تسلق النخيل وملء تلك المعدة الصغيرة بحبة أو حبتين من التمر الذي عَبِقَ المكان بحلو طعمه ورائحته.

حتى جاءت تلك اللحظة التي كنت أتخوف منها وأبتعد عنها قدر المستطاع متكئا على سواعد أبي، ومحتزما بصدور إخواني ومحتميا بحضن أمي، مزهوا برفقتي، أسيرا لضحكاتهم، لا أكاد أفارقهم ولا يفارقوني، ولا يستطيع أحد من الوصول إلى ذلك الحصن الذي أحتمي به حتى يجتاز كل هذه الأسوار التي حمتني لعقود، ولا أدري ما الذي أصاب عقلي أو ضرب قلبي فأخذه إلى تلك السفينة وجعلني أصعد إليها دون تفكير؟!

كنت أتساءل دوما هل هو حب المغامرة؟ أم تلك النزعة القيادية التي تجري في دمائي؟! أم أنها طبيعة الحياة. وأنه حتما سيأتي اليوم الذي نبحر فيه شئنا أم أبينا، إن لم يكن اليوم فغدا، فالكل يغادر. رجلا كان أم امرأة. ومانحن إلا كأوراق الشجر التي تسوقه الرياح في طريقها، فلا الربيع يبقى ربيعا ولا الشتاء يمضي شتاءً، فالصيف قادم لا محالة بقيظه والخريف سيلحق به ولن يرحمنا حتى وإن اختبئنا في بطون الأرض.

لكن رغم متاعب الرحلة وقسوة السفر ووحشة الطريق وتلك الوحوش التي ترتدي أقنعة الجمال وما أن تقترب منها حتى تفترسك بلا هوادة، ودون أية شفقة أو رحمة، فلا يفرقون بين الصالح والطالح، إنهم يعيشون فقط من أجل الافتراس، ويحيون بلا ضمير، ولا يشبع نهمهم سوى صوت صرخاتك وحمرة دمائك على أنيابهم، وكلما علت الصرخات كلما كانت سعادتهم أكثر.

لم يتوقف الأمر عند هؤلاء الوحوش، فمقاومتهم أمر يسير، فما أن تدرك عدوك يسهل عليك اتقاء شره والنيل منه، لكن عندما تمتلئ سفينتك بالأشواك التي لا تعرف من أين تنبت ولا من أين تخرج؟! تصعب الحياة فيها، ويكون باطن البحر آمن لك من ظاهره، لقد حاولت بشتى الطرق أن أتفاداها وأبتعد عنها، لكن إلى أين المهرب وقد أمست غابة من الأشواك، مع ذلك الموج الذي لا يكاد يتوقف حتى أصابها في كبدها، فكان القفز منها هو السبيل الوحيد للنجاة، ولكن إلى أين؟!

وما أن ابتلعني البحر، واصطدمت بجوفه المظلم حتى أصابتني قشعريرة الموت، ولكنني كنت أملك بعض الشجاعة المغلفة بالإيمان، وروحا من الأمل رغم شدة الضياع، وبصيصا من الضوء ما زلت أرى به رغم عتمة الليل، وقد ساعدني في هذا أنني أجيد السباحة وكأنني أذكر ذلك الوقت الذي تعلمتها فيه كنت أستشعر الخطر يوما ما.

بقيت في البحر أياما حتى أنهكني التعب، لا برا أصل إليه ولا قاربا يحتويني، أكلني اليأس، وابيض جسمي من الملح، والتصق جوفي بقلبي من شدة البرد والجوع، فكنت أتشهد مع كل نفس وألهج بالدعاء مع كل خفقة قلبٍ، كالمودع الذي رأى ملك الموت لكنه لم يصل بعد، وما هي لحظات حتى غفت عيني بعد أن قاومت النوم لساعات طوال، ولا أملك فراشا سوى ذلك اللوح الذي انتزعته من السفينة وعانقته بجسدي كلما تعبت من السباحة افترشته تحت صدري لأرتاح قليلا.

كان آخر ما رأيته قبل نومي هو ضوء القمر وانتظام النجوم التي أراحت نفسي قليلا، فلا زال هناك نور في هذا الكون رغم ظلمة الليل وسواد البحر وضراوة وحوشه، ولم أشعر بنفسي تلك الليلة إلا على لفحات الشمس الحارقة التي أيقظتني وقد وجدتني كومة من اللحم والعظام متمددا على شاطئ من الرمال الناعمة وذلك اللوح لا يزال في حضني، كنت لا أستطيع الحراك، لكن رحمة الله كانت أوسع، فالأشجار تملأ الكون، وتبدو بعض الثمار الغريبة من بعيد، أي طعام هذا وأين أنا؟ وما هذا المكان الذي وصلت إليه؟!

وما هو إلا وقت يسير حتى استجمعت قوتي والتقطت بعض الثمار؛ لأسد بها جوعي، وأقيم بها صلبي بعد أن أنهكته هذه الرحلة بقساوتها وشدتها ومآسيها، حتى أخذتني قدماي إلى باطن تلك الأشجار الكثيفة والمزارع المورفة ومنها إلى وادٍ فسهلٍ حتى ابتلعتني بداخلها وما يسريني فيها هو بعض الظل وشيء من السكينة بأصوات الطيور وأرضٌ أفترش عشبها وألتحف أوراقها لأريح ذلك البدن المتعب.

أصابني عطش شديد، فكنت أتلمس قطرات الندى كل صباح لأسقي جوفي اليابس،وبقيت على هذا الحال حتى اصطدمت عيناي بعينيه، إنه ذئب حقيقي! يالله أي قدر هذا! لم أفر منه، فمن يفر من القدر يلقاه بأسرع مما فر منه، فأومأ لي برأسه: «أن أطمئن»، شعرت في البداية بشيء من الغرابة؟ أي عالم هذا؟ وأي كون هذا الذي يصاحب فيه الذئب إنسانا؟ لم أبتعد كثيرا حتى وصلت إلى «بئر يوسف» وقد كتب عليه: «قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ* وَجَاؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ».

لحظتها أدركت كم كان الذئب بريئا من دم يوسف، وكم يوسف ألقيناه في الجب،وكم يعقوب أفقدناه ولده، وكم ذئبا ربينا وكم ذئبا عاشرنا وكم ذئبا آوينا، لكن أعجب ما وجدت على بئر يوسف تلك العبارة العجيبة التي زينت جنباته من الداخل بطعم الألم: «لو كان أختا لقصّت أثري كما فعلت أخت موسى فتردني لحضن أبي».

تقدمت أكثر في الوديان حتى التقيت بنهر صغير فسعدت أيما سعادة، وأخيرا سوف أرتوي من العطش وأتطهر من الدَرَنِ، وما أنْ شربت منه حتى رأيت ظلال السيوف وأسنة الرماح تجري على مياهه وبينها تابوت عظيم قد كُتب عليه: «إنّ الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه منْ يشاء والله واسع عليم»، فأي ابتلاء هذا؟ أينما ذهبت حطت قدماي بدرب أعظم من الآخر، فأين نحن من طالوت وجنوده! أي زمن هذا الذي نحيا فيه وقد أصبح الهر يحكي فيه انتفاخًا صولة الأسد!

ويا ليتها كانت نهاية الرحلة في عالم النسيان، فعندما صعدت الجبل وجدت بقايا سفينة عظيمة وقد نُسج على شراعها» يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين»،وسكينا ملقاة عند سفحه وحجر ناصع الجمال بجوارها مكتوب عليه: «يأبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين».

وقفت شارد الفكر، حائر النفس، وأنا أتجول بناظري على المدى، أشق الكون بصيحاتي: «يالله أين أنا، رحمتك بي»، حتى أقبل الغروب فآويت إلى كهف لأستتر فيه من ظلمة الليل، وإذا بي أجده قد مُلئ بالعظام ونُحت على جدرانه: «إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا».

ربما بعد النوم لبضع ساعات في صحبة الأموات أدركت أنه أكثر راحة من النوم لسنوات في صحبة الأحياء، فأنْ تغمض عينيك مرتاح البال، آمن الجناب، هانئ النفس، أفضل كثيرا من النوم على أسرة من الحرير لكنها تحمل بين طياتها أشواكا، توجع النفس بآلامها، وتشق القلب بحدتها، وتمزق البدن بقسوتها، لكن ترى من يدرك ذلك قبل فوات الأوان، ومن يعي تلك الحقيقة قبل أن يتجرع مر الألم كل ليلة في فراش جعله منفى لنفسه عن هذه الحياة.

لم تنته الرحلة عند هذا الحد الذي جعلني أرى فيها الكثير، وتعلمت منه الأكثر، ففي ذلك الزمن البعيد على تلك الضفاف التقيت بأم موسى وقصت علي كم من طفلٍ تم ذبحه، وكم من شيخ تم قتله، وكم من امرأة تم استعبادها؛ فقط ليبقى ذلك المستبد متنعما بملك كُتب فيه جحيمه وسَبق عليه القلم فيه بهلاكه، ولو كان يعلم الغيب لما حارب الخالق، وقتل المخلوق واستعبد الخلق، وسفك الدماء، وما ينفع الحاكم حكما بلا شعب وملكا بلا راحة وما تفيده السطوة بغير نعيم؟!

يوم وراء يوم، وليلة تأكل أخرى، والعمر يجري، ولا مُوقِفَ له، وكأنه قد كُتب علينا ألا نتوقف إلا عندما تنتهي الرحلة، وما بين الليل والنهار ما نحن إلا كعقارب الساعة التي ترتاح قليلا فقط لاستكمال المسير، لا من أجل تغيير الاتجاه، قدرٌ يسوق قدرا، وبينهما نصارع ونقاتل ونقاوم من أجل البقاء والحفاظ على البسمة ولو بطعم الألم.

حتى وصلت إلى محطتي الأخيرة بعد أن أنهكني التعب، فالتجأت إلى باب غارٍ قدكُتِبَ عليه: «لا تحزن إنّ الله معنا»، شممت فيه رائحة هذا اليتيم الذي حاربه أهله وقومه لا لشيء إلا لأمانته وصدقه، ودعوته لهم بالنجاة! فلم يرتكب جرما ولا جريرة سوى أن قال لهم: «ربي الله»، فأذوه لكنه تحمل وصبر ولم ييأس رغم أنه كان وحيدا، فآواه الله من اليتم وهداه من الضلال وأغناه من الفقر، فكان الجزاءمن جنس العمل وعلى قدر الشدائد تكون العطايا.

فإلى تلك الأسماء المنسية على ضفاف الغياب، إلى هؤلاء الحيارى والمتعبين، إلى أصحاب القلوب الرقيقة، والأفئدة المعذبة، إلى من أثقلتهم الحياة، وخانهم الصديق، وطعنهم القريب، ولم يرحمهم العدو، إلى كل اسم عظيم لم ينل ما يستحق، وإلى كل مؤمن وصادق ومتميز لم ينزله الناس منزلته، إلى كل امرأة ابتليت في حياتها، وكل مؤمنة لم تدرك من الدنيا حظها، وإلى كل مهاجر عن حضن والديه، وكل غائب عن وطنه وكل لاجئ في أرضه، لا تحزنوا فإنْ نُسيت أسماؤكم وأُهملت علومكم في عالم البشر فهي مكتوبة بأحرف من نور بصحائف رب البشر. وإنْ ظلمتكم موازين الأرض. فلا يوجد أعدل من ميزان السماء، فأبشروا، فلن يضيع الله عبدا لجأ إليه.

فإلى كل من يعيش وحيدًا على ضفاف الغياب، إياك واليأس فالنجاة حتما قادمة وتذكر قوله تعالى كلما تعبت وتألمت: «لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا»، هناك حيث يتغير الزمان وتبقى فقط الحقائق والآثار، وتُغزل «أسماءٌ» بالنور، حتى وإن كانت منسيةً فهي حيةٌ وباقية، ما بقيت الأيام وما إشراقها ببعيد.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد