من أوكد واجبات الوالدين على أولادهما وقايتهما من النار، ومن جملة ما يفعلان لأجل ذلك الحرص على أن ينشئا أبناءهما مداومين على الصلاة، لذا يطرح السؤال – كيف تربّي ابنك على الصّلاة؟ – نفسه بقوّة.
بدأت في معالجة هذا الموضوع بمقال (لا تصطحب ابنك إلى الصلاة؛ قد يصبح مضيّعًا لها!) بيّنت فيه أن هاته الطريقة لا تجدي نفعًا في تعويد الابن على الصّلاة، فكان لزامًا عليّ تقديم البديل فكان المقال الثاني (كيف تربي ابنك على الصّلاة؟(1) عرضت فيه ثلاث عناصر مهمّة، وهي باختصار: التربية الإيمانيّة، والقدوة، والتعويد على المسجد، وسأكمل معكم المشوار في هذا الجزء الثاني من الموضوع.
4- تعليم الصّلاة
ما إن تقرأ هذا العنوان حتى يتبادر إلى ذهنك الحديث المشهور: { مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ،وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ سِنِينَ} … تعليم الصّلاة كمبدأ أمر ضروريّ وخطوة بديهيّة لتربية الابن على الصلاة، ولكن ضرب الابن على الصلاة وهو ابن عشر سنين قد يجده البعض أمرا مستهجنا، ولكن ما كان لنا إذا قضى الله ورسوله شيئًا، إلا أن نقول سمعا وطاعةً، وقد يتساءل أحدكم قائلًا: (هل ضرب الأبناء حين يبلغون العاشرة يكون على كل فريضة يتركونها أم على عدم تعلّم الصّلاة فقط؟ وسيكون سؤاله ذا معنى أكبر إذا علمنا أن هناك إجماعًا بين العلماء على أن الولد غير مكلف بالصلاة، ولا بغيرها، قبل أن يصل سن البلوغ وهو عادة بين 12 و14، نقول للسائل، بالرغم من أن سؤالك وجيه، إلا أن الإشكال يزول فورًا إذا علمنا أن كل أسانيد الحديث بكل رواياته وطرقه لا تخلو من جرح، وأغلب رواته ضعاف، وهذا ما فصّله مدحت صفوة في مقال له، تستطيع أن تقرأ الحديث بكل صيغه المتعددة وشواهده هنا.
وها قد زال الإشكال، نتساءل (متى يجب حقًّا تعليم الطّفل الصلاة؟) للإجابة على السّؤال لنلق نظرة حول التجربة المزابية كما عودتكم.
في الحقيقة لا يوجد طريقة موحّدة بين أفراد المجتمع، ولكن غالبًا ما يتعلّم الطفل في المدرسة الحرّة (أو الكتّاب) ما لا يسع جهله من أحكام الصّلاة، وهذا يكون عادة في سنّ التّاسعة أو العاشرة، ثمّ بعد ذلك يخضع الولد لتقويم الصّلاة فور بدئه لها، كما يتكفّل المسجد بالباقي. من المهمّ أيضًا أن نشير إلى طريقة أخرى ظهرت قبل قرابة 20 سنة، وهي تربّصات الصّلاة، إذ تقام دورات مغلقة مكثّفة يتعلّم فيها الأولاد الصّلاة ببعض أحكامها التفصيليّة مع متابعة الأساتذة لهم، بالرغم من أن تقييم التّجربة ليس من اختصاصي، إلا أني أرى أن النظر في تعميمها بات أمرًا ضروريًّا.
إذا كتوجيه عملي، أنصح الوالدين أن يبدأوا تعليم الصّلاة لأبنائهم أوّلا بأول، فيتدرجون من تحفيظهم القرآن، وحركات الصّلاة وصولًا إلى أحكام الطّهارة – حسب ما تستوعب عقولهم – وإن كان من الأحسن تكليف إمام، أو من له العلم بهاته الأمور. وضمّ الابن لمدرسة قرآنيّة تعلمه أمر دينه سيكون شيئًا رائعًا بلا شك.
5- البدء دفعة واحدة
بعد أن يكون الابن محضّرا نفسيًّا لبدء الصّلاة؛ ممّا رسخ في قلبه من حبّ الله وخوف عقابه ورجاء حسابه، بفضل التربية الإيمانيّة، وممّا رأى من والديه من الحرص على الصّلاة واتخاذه لهم قدوة ثم تعوّده على المسجد، بعد كلّ هذا وبعد تعلّمه الصّلاة، تحين الخطوة الأهم، الخطوة التي تضع جهود الوالدين على المحكّ، إنها البداية. يختلف المرشدون في أمر هاته اللحظة، فمنهم من يرى الوجوب بتبكيره، ومنهم من يرى ذلك تحميلًا للولد فوق طاقته، كما يرى فريق أنّ الأحسن هو التدرّج فيما يرى الآخرون أن البدء دفعة واحدة أكثر إفادة، دعونا من جدالهم ولنلق نظرة على هاته التجربة التي صدّغت رؤوسكم بها.
في المجتمع المزابيّ في غالب الأحوال، يبدأ الطفل صلاته دفعة واحدة، ولا يكون قد صلّى قبلها إلّا تعلّما، ولكن وقت البدء قد يكون فور البلوغ – إذ إنه إذا احتلم الصبيّ في الليلة أصبحت صلاة الفجر لذلك اليوم واجبة – وقد يكون قبيل البلوغ حين يقرب منه، وعادة ما يكون ذلك في دورات تعليم الصّلاة، ولكن الشّاهد أن البداية هي نقطة اللارجوع، إذ بمجرّد أن يعزم على أن ينضمّ لجموع المصلّين طلّق فترة الصبا ودخل عدّاد البالغين له ما لهم وعليه ما عليهم.
الحكمة في البدء دفعة واحدة أنها تشعر الولد أنّ الأمر جدّ، إمّا أن تكون مصليًّا تصلّ الصلوات الخمس في أوقاتها أو تكون – والعياذ بالله – متهاونًا بها مضيّعًا لها، ولا تترك له خيارًا وسطًا، عكس البدء التدريجي: فتجد الوالد يأمر ابنه بالصلاة أحيانًا ويتركه أخرى، وربّما أجبره على إقامة الصلوات الخمس وتسامح مع صلاة الفجر رحمة به، وبهذا قد يترسّخ سلوك ترك بعض الصلوات فيه، وبالطبع هذا ليس ما نطمح إليه.
6- اختيار الرفقة
يقول ربّ العزّة: ﴿الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ (سورة الزخرف:الآية 67)، تفيد هاته الآية إلى أن العلاقة بين الأصدقاء تنقلب في الآخرة عداوة، وذلك لما يرى الأصدقاء هلاكهما، ويدركان حقيقة أنّ صداقتهم كانت من أسباب هلاكهم وهذا هو الأمر العام، أمّا الأمر الخاص فهو أن تبقى العلاقة على حالها إذا كان الأصدقاء من المتّقين، وذلك لتعاونهما في الدنيا على البرّ والتقوى، وكما يقال فالصّاحب ساحب.
لمّا كان تأثير الصاحب والجليس بهذه الدرجة الكبيرة، فإن تأثير هذه العلاقة على مستوى الأطفال بعضهم في بعض أكثر تحققًا ومضاء،إذ تعتبر جماعات الرفاق من أشد الجماعات تأثيرًا على تكوين أنماط السلوك الأساسية لدى الطفل. يقول أنور محمد الشرقاوي (انحراف الأحداث)،ص:116.
وتقول سحر شعير: ويتميز هذا التأثر بين أفراد جماعة الرفاق بعضهم ببعض، بأنه بطيء، طويل المدى، ولكنه أكيد المفعول، الأمر الذي جعل خبراء التربية يطلقون على تلك العلاقة مصطلح التربية السهلة، إذ إنها توفر على الوالدين الكثير من التلقين، فقط. يكفي أن يرى الولد صديقه يصلّي فيقلده، بل يذهب معه إلى المسجد.
فيما قاله الكاتبان كفاية في تبيان أهميّة الصحبة، ولكن ما دخل الوالدين في الموضوع؟
على قدر حرص الوالدين على أن يكونا قدوتين صالحتين لأبنائهما، وجب أن يكون الحرص على إحاطة أبنائهما رفقة صالحة، ويجب التنبّه لذلك مبكّرا فيهيّئ الوالدان بيئة اجتماعية تسمح للابن بالاختلاط والتعارف مع أقرانه الصّالحين، فيلبيان حاجاته الاجتماعية من هاته النّاحية، وقد يكون ذلك بالتعاون مع أولياء آخرين يتبعان نفس النهج في التربية، فتتعارف العائلتان وتتزاوران مستفيدين من بعضهما البعض، وكما قد يكون بالحرص على انضمامه لمدرسة قرآنية أو ناد كشفي، وإن كان مجرد الانضمام لا يلغي مهمة الوالدين في التثبت من نوعية الصداقات التي ينشئها. هذا عن الوقاية وتوفير البديل، أمّا إن كان الفأس قد وقع على الرّأس ووطّد الولد صداقات مشبوهة، فهنا يأتي العلاج، ويبدأ بالموعظة والإقناع، ثم شغل وقت الولد، فلا يجد لأصحابه متسعًا من الوقت، وبعدها تحذير الأصحاب من التغرير بولده، ويفيد أيضًا مراسلة أهل أصحاب الولد ليمسكوا ولدهم عن ولده.
7- الترغيب والترهيب
قد يجد المربّون أن أسلوب الترغيب هو الأجدى والأعمق أثرًا مع الأحداث، ولكن لا بدّ أحيانًا من الترهيب، فالواحد مكمّل للآخر.
يبدأ الترغيب من السنوات الأولى من العمر، إذ يشجّع الطفل إذا وقف بجانب والديه يقلدهما في حركات الصّلاة، ويكون بالجوائز التحفيزيّة بعدها لتعلّمه الصّلاة أو ما يتصل بها، وعند بدئه الصلاة أيضًا، تكون الهدايا المعنويّة كالعناق والتقبيل والثناء الحسن، أمّا الماديّة فكثيرة، وأحسنها ما اتّصل بموضوع الصّلاة كالسّجادة وتقويم الصّلاة مثلًا، وكل واحد أدرى بابنه.
ولا مانع من إعطائهم الهدايا التشجيعية على أداء الصلاة؛ فقد روت عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنهم كانوا يأخذون الصبيان من الكُتَّاب ليقوموا بهم في رمضان، ويرغبوهم في ذلك عن طريق الأطعمة الشهية، وكان بعض السلف يعطون الأطفال الهدايا التشجيعية على أداء الصلاة. المصدر
أمّا الترهيب، فلا يكون بالضرب ولا العقاب، ذلك أنّ الصّلاة أمر بين الولد وربّه، وإنّما يكون بالزجر، والتذكير بوعيد الله، وقد يكون بحبس كل عطاء زيادة عن الواجب ، بيد أنه يجب التذكير أنّ الحكمة واجبة في مثل هاته الأمور، فلا تفريط ولا إفراط يحكي مدحت صفوت على لسان صديقه: «وأنا بالسعودية كنت في رابعة ابتدائي وقت الظهر كل المدرسة تصلي في المسجد،وكنت ألبس تيشرت عليه صورة أسد،كان الناظر يجبرني أن أرتديه مقلوبا قبل الصلاة،عشان حرام.. ولما قلتله: ده قطن والإنسان اللي عمله كان يقولي: “اجفل خشمك قسم بالله تنطج لين يجي بوك،انجلع العمي بوجهك”.. ومن ساعتها وأنا مابصليش».
8- المتابعة
لا بد للوالدين أن يتابعا أبناءهما على أداء الصّلاة، ويحرصا على أن تكون مع الجماعة. تكون المتابعة قبل وقت الصّلاة وأثناء الصلاة وبعدها، فقبل الصّلاة يذكّره بقرب الوقت كي يتسنى له تحضير نفسه للصلاة مع الجماعة، ثم يعيد تذكيره حين يصل الوقت، ومن الأفضل أن يذهب معه إلى المسجد، أمّا المتابعة أثناء الصلاة فبمراقبة الحركات والإتقان عن عمار بن ياسر رضي الله عنه، أنه صلى ركعتين فخففهما، فقال له عبد الرحمن: يا أبا اليقظان، أراك قد خففتهما؟ فقال: إني بادرت بها الوسواس، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
{إن الرجل ليصلي الصلاة ولعله لا يكون له منها إلا عشرها، أو تسعها، أو ثمنها، أو سبعها، أو سدسها، حتى أتى على العدد} [ حديث صحيح، أخرجه أبو داود وأحمد في مسنده ]
والمتابعة بعد وقت الصّلاة تكون خصوصا لمّا لا يُعلم أصّلى الولد أم لا، فيسأل عن صلاته دون تحقيق، وإن استلزم الأمر فيتحقق من الأمر دون علمه، ويطبق الوالدان ما يتناسب مع حاله بحكمة، فما يفعله مسؤول هو وحده عنه ما دام بالغا.
9- الصبر
ربما لا يكون الصبر خطوة عمليّة كالخطوات السابقة، وإنما سلوك خلق على الوالدين أن يصبغا به مسيرتهم التربويّة، وأفردته عنصرا ذلك لأني سمعت الله عز وجل يقول آمرا نبيّه عليه السّلام: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ﴾ (سورة طه:الآية 132)، والصبر واجب حين تعليم الولد الصّلاة، وحين إقامة الصّلاة نفسها فـ﴿…إِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ (سورة البقرة:الآية 45)
10- الدّعاء
بعد اتّخاذ كل الأسباب، وجب التوجّه إلى ربّ الأسباب، مقتدين في ذلك بسيدنا إبراهيم عليه السّلام حين تركه زوجته وابنهما بواد غير ذي زرع فدعا ربّه:﴿…. رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ (سورة البقرة:الآية 37)، فالأسباب المادّيّة “القريبة” لا تكفي وحدها للحصول على النتائج، بل وجب إتباعها بالأسباب الرّوحيّة “البعيدة”، ذلك أنّ الله وحده الموفّق.
وهنا نكون قد أتممنا مبحثنا، فلنلخّص الأمر:
لتربية ابنك على الصّلاة وجب عليك أوّلا أن تنمّي فيه الوازع الديني بالتربية الإيمانيّة، حارصًا على أن تكون نعم القدوة له، ثم تعلّمه الصّلاة متى أبدى استعدادًا وقبل بلوغه، وفي هاته الفترة عوّده على المسجد دون أن توقفه في الصفّ، واحرص على أن ينعم برفقاء صالحين، وحين يصل الولد سنّ البلوغ فادفعه لبدء الصّلاة دفعة واحدة، وتابعه بعد البدء بدون تحقيق واحرص على أن توازن بين الترغيب والترهيب، واصطحب في ذلك كلّه الصّبر، ولا تنس الدّعاء له ولنا.
وقبل أن أستودعك الله أخي القارئ أودّ التنبيه لبعض الملاحظات:
- أنا لست بمختصّ في المجال، ولكنني استفدت من بحوث الآخرين فيه، وحاولت أن أميّز الغثّ من السّمين، وفي نفس الوقت حاولت أن يكون المقال شاملًا فلا يحتاج القارئ لمصدر خارجي، ولكنني لا أنصح بالاكتفاء بالمقال.
- أما القيمة المضافة للمقال بجزئيه فهي استفادتي من التّجربة المزابيّة.
- حديثي عن التجربة المزابيّة ليس تقييمُا، وإنّما عرض للتجربة. القارئ وحده يستطيع التقييم، والحكم إن كانت تستحق التعميم أم لا.
- هذه الخطوات قد تصلح لمواضيع تربويّة أخرى كالصوم وغيره بتعديلات بسيطة.
- برجاء اطّلع على المصادر أسفله، ولا تبخل علينا بنقدك ورأيك.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست