ذات مرة سألني صديقي: ماذا لو جاءك رجل من الصين يدّعي أنه الرسول الأخير من الله إلى الناس ويدعوك لاتباعه؟! هل كنت تتبعه؟

من بين أخطر الموضوعات التي توارثها المسلمون من غير بحث أو تنقيب كان موضوع عالمية الدعوة الإسلامية، والمقصود بعالمية الدعوة الإسلامية هو أن الإسلام جاء دينًا لكل الناس في كل مناحي الأرض، وأن القرآن هو الكتاب الأخير من الله ليهتدي به الأبيض والأسود، الأدنى والأقصى.

بالطبع كان لقبول هذه الفكرة بالمنظور الشائع دور غارق في الخطورة في الكثير من أحداث تاريخ المسلمين، كان أخطر تلك الأحداث هو فكرة الفتوحات الإسلامية، وهي الفكرة غير الواردة من ضمن أسباب القتال شديدة الوضوح والتحديد في القرآن. أيضًا كان من أخطر تبعات تطور هذا المنظور في الثقافة الإسلامية هي فكرة اعتبار أن الاعتراف بأن محمدًا هو الرسول الأخير شرط ضروري للنجاة في الحياة الأخرى. في الحقيقة فإن تبعات هذا الموضوع أخطر وأكبر من أن تُناقش في هكذا موضع، لكننا سنحاول على كل حال مناقشة صلب الفكرة قرآنيًا ثم سنعرج بعد ذلك بتعليقات بسيطة على تبعاتها الخطيرة والجديرة بالنقاش خصوصًا في هذه الفترة من تاريخ الإسلام.

قبل مناقشة قضية عالمية/ قومية الإسلام كان لا بد من النظر في الخطاب القرآني بشأن الدين والرسالات بشكل عام، وقد تجد عند النظر للقرآن نظرة كلية عرضًا لبعض الأطر التي جعلها القرآن حاكمة وعامة لهذا الموضوع متعدد التأثيرات والنتائج على فكرة الدين وفلسفة الخلق، وكلها أطر لا يمكن إهمالها في مثل هذه الدراسة لارتباطها الوثيق والذي سنتبينه معًا فيما سيأتي.

لكل قوم رسول

كانت سنة الله في خلقه أن يرسل لكل قوم رسولًا، ولم يكن هناك رسول أرسله الله لكل البشر ولعل السبب وراء ذلك لا يغيب على عاقل، كما لا يبدو أن هناك استثناءات لهذه القاعدة!

يقول تعالى: “وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ”. سورة يونس.

قال تعالى: “وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا”. سورة النحل.

قال تعالى: “وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ”. سورة الرعد.

أتساءل كيف لم نلاحظ هذا التواتر لهذا المبدأ القرآني، وتأكيد القرآن على لسان الرسول بأنه “مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ”. وأنه كمثل إخوانه من المرسلين، جاء لقومه هداية لهم وإصلاحًا لدينهم ودنياهم. والقرآن يؤكد ذلك فيقول: “يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ”. لا يبدو الأمر في حاجة لمزيد التوضيح.

لغة القوم، ورسولهم

ربما تقضي البداهة بأن يكون كل رسول متحدثًا بلغة قومه، لا يحتاج الشخص للتأكيد على مثل تلك المعلومة، إلا أن القرآن فعل ذلك!

“وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ”.

تلك قاعدة عامة يصرح بها القرآن رغم بداهتها كما يبدو، ورغم ذلك قد يسأل أحدهم: لماذا؟ وهنا يجيب القرآن عن هذا السؤال في أحد أخطر الآيات وأكثرها حسمًا الواردة في هذا الموضوع على الإطلاق في قوله تعالى: “وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ”.

يسأل أحدهم عن سبب عدم دخول الغرب في الإسلام، ويرد الآخر: لأننا نبدو أشرارًا.

لولا ثقافتنا المشوهة لكان هذا السؤال غريبًا، ولكن الإجابات المطروحة تبدو أكثر غرابة أيضا! فنحن لم نلحد لأن شعب اليابان يبدو طيبًا وودودًا. الآن أتفهم ذكر القرآن وتأكيده على بداهة أن اللغة شرط لقبول الرسالة، أو بالأحرى فهمها!

لسان الرسول ولغته كشرط ضروري لإقامة الحجة

قوله تعالى: “إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ”.

قوله تعالى: “كَذَلك أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبيًّا”.

قوله تعالى: “حم. وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ. إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ”.

في هذه الآيات يتم التأكيد على أن القرآن إنما نزل باللغة العربية لكي يتناسب وإقامة الحجة على العرب وهدايتهم والخروج بهم من ظلمات الجاهلية إلى نور الحق وسبيل الرشاد. ولا يجب أن يتم تجاهل تلك التصاريح باستخدام العربية لغةً للرسالة، ثم تأكيد الرسالة نفسها على أن اختيار العربية كان لسبب وهو ما لن يغيب على كل من يقرأ كل تلك الآيات.

اختلاف الناس من غايات الخلق

يقول الله تعالى: “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ” وفي هذه الآية تصريح بأن اختلاف الناس في العموم هو من غايات الخلق، فالاختلاف يخدم فكرة التعاون على الخير ودفع الفساد ويكون لأفكار التعايش والاندماج الحضاري تلك المعاني التي نناقشها الآن، ويكفي مجرد التخيل بأن يكون العالم كله قرية واحدة بلغة واحدة ولون واحد. حتى تلك الصورة تبدو عصية على التخيل!

لذلك فإن غاية الاختلاف تتسق مع فكرة أن يكون الدين قوميًا وليس عالميًا، ولو كانت دعوة الدين، أي دين عالمية، فإن ذلك يقتضي أن تكون غاية هذه الدعوة هو تجميع/ توحيد الأمم تحت راية هذا الدين، وهذه الغاية تقف موقف الضد من غاية الاختلاف ولا يبقى هنا سوى أن نؤكد أن احتواء نفس المصدر على غايات متضاربة بل ومتضادة يقدح بأصالته وحكمته على حد السواء!

بعد أن ناقشنا تلك الأطر العامة في القرآن والتي تتعلق بمسألة الدين والرسالة بوجه عام نأتي ببعض الآيات التي تتحدث في صلب الموضوع، فنجد القرآن يحدد مناط رسالة الإسلام وتوجهها في مجموعة من الآيات ومنها:

قوله تعالى: “وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا”. ثم يتكرر نفس المعنى في سورة الأنعام وغيرها.

في هاتين الآيتين تصريح غير قابل للتأويل بأن القرآن والرسول إنما بعث لمكة ولمن حولها من قبائل العرب. ولعل هذه الفكرة على وضوحها تبدو أكثر اتساقًا مع السياق الخاص بمسألة مناط الدعوة المحمدية، فالقرآن – كما عرضنا – يخبرنا بشكل متواتر أن الله لم يرسل رسولًا إلا بلسان قومه وهكذا يتحقق الشرط الأول لإقامة الحجة وهو فهمها من قبل المتلقين لها.

وهناك مجموعة أخرى من الآيات التي تتحدث في نفس السياق وتجعل القرآن إنما أنزله الله لقوم الرسول الكريم، ونذكر من هذه الآيات:

قوله تعالى: “وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ”.

قوله تعالى: “بَلْ أتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ”.

قوله تعالى: “لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ”.

قوله تعالى: “قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ”. سورة الطلاق.

والذي يظهر من هذه الآيات أن الرسالة خاصة بقوم الرسول، وقد أمر الله رسوله بأن يخبر قومه صراحة أن هذه الرسالة هي رسالتهم وفيها ذكرهم وذكر من قبلهم. وهكذا تسير هذه الآيات في نفس السياق والمورد الذي يظهر من قراءة الآيات سالفة الذكر.

آيات يُفهم منها أن الإسلام دعوة عالمية!

لا ندري بالتحديد السبب وراء شيوع الآيات التي سنذكرها الآن في مقابل التجاهل التام لبقية الآيات الواردة في هذا الباب، إلا أن هذه الآيات التي تعطي الدلالة على عالمية القرآن تستمد دلالتها حقًا من غياب الآيات التي ذكرناها في مقدمة المقال والتي تعتبر حاكمة لفلسفة القرآن في هذا السياق.
كانت من هذه الآيات قوله تعالى “إنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ”، وفي موضع آخر يقول تعالى “قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا”.
وكانت أيضًا من تلك الآيات التي تُوهِم أصحابَ دعوى العالمية هذه الآياتُ:
قوله تعالى: “وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَة لِلْعَالَمِينَ”.
قوله تعالى: “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ”.

وبمراجعة هذه الآيات مع الآيات التي تؤكد قومية رسالة النبي محمد يتبين أنه الأسلوب القرآني المتواتر وهو ذكر لفظ عام يقصد به الخاص، فكلمة “الناس” المتكررة في الآيات ليس المقصود منها كل البشر ولكن المقصود منها ما تم تحديده في آيات القومية، وهو أهل مكة ومن حولها. وقد فَنّد بعض العلماء هذا الأسلوب القرآني في العديد من المصادر أهمها “الإتقان في علوم القرآن” وقد ذكر السيوطي فيه أمثلة متعددة على هذا الأسلوب ومنها قوله تعالى: “الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ” والقائل واحد، نعيم بن مسعود الأشجعي. وهذه القاعدة تعرف في علم التفسير بقاعدة “حمل المطلق على المقيد”. والمطلق هنا هو قوله: “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ” ومثيلاتها من الآيات، وقد تم تقييدها جميعًا بقوله: “وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا”. فالمقصود بالناس هنا هو مكة ومن حولها من العرب.

أحداث قد يفهم منها عالمية الدعوة

كانت من بين الأحداث التي دعم بها أصحاب نظرية عالمية الدعوة دعواهم هي تلك المراسلات التي دارت بين النبي وبين ملوك الممالك المحيطة بشبه جزيرة العرب مثل مراسلاته لكسرى وقيصر وهرقل، والجواب على هذه الفكرة يكون من وجهين:
أولاً: أن تلك المراسلات بحسب الروايات كانت قبل فتح مكة، وكيف يكون من المنطق أن يخاطب الرسول أصحاب الممالك بما قد تفضي إليه مثل تلك المكاتبات وهو بعد لم يفتح الحجاز، ولم يعد بقومه إلى ديارهم وأهلهم بعد! لا شك أن هذا الترتيب لتلك الأحداث يفضي إلى الشك في معقوليتها من حيث المبدأ والتوقيت معًا، أضف إلى ذلك ميل الباحثين إلى رفضها من حيث السند أيضًا حيث إن تلك المرويات لم تذكر في أي من كتب الحديث المشهور ولكن جاءت في بعض كتب التاريخ مثل تاريخ الطبري وصحيح ابن حبان والنسائي.

ثانيًا: إن صحت تلك المرويات فلا يمكن إهمال فكرة أن يكون المقصود من تلك المكاتبات هو استهداف العرب الخاضعين لتلك الممالك أو الموالين لها، وقد يعلم الكل تلك العلاقة بين القبائل العربية من نصارى الشام ودولة الروم، وهو ما قد حدث في غزوة مؤتة عندما انضم الروم إلى جيش نصارى العرب وقد كان ما حدث من أحداث كارثية لجيش المسلمين في تلك الغزوة.

ماذا لو كان الإسلام دعوة قومية؟

لا شك أن هذا الطرح الجديد سوف يقلب الثقافة الإسلامية رأسًا على عقب، ثقافة كانت تقوم على بعض البدهيات التي ليست بدهيات في الواقع، تلك البدهيات الكاذبة التي جعلت المفكر الكبير الأستاذ العقاد يؤلف كتابًا سمّاه “الإسلام دعوة عالمية” دون أن يلتفت إلى إثبات هذه الفكرة مبدئيًا سوى في خمس صفحات كانت تمثل ردًا باهتًا وضعيفًا على بعض مقالات “سوندرس” في مجلة “التاريخ اليوم” عن الاستعمار الإسلامي في عهد الخليفة عمر أو كما نحب أن نسميه الفتوحات الإسلامية! وللحقيقة المرة فإن هذا الموضوع تحديدًا يبدو من أهم الموضوعات التي يجب مناقشتها في ضوء تلك الرؤية الجديدة لدعوة الإسلام.

كانت فكرة عالمية الإسلام هي الدافع الأول والأكبر الذي دفع الناس لقبول فكرة الفتوحات، تلك الفكرة التي لا تجد عليها دليلاً في طول القرآن وعرضه. بالطبع لا يمكن إغفال دور السياسة والرغبة في التوسع الجغرافي وزيادة الإمدادات لدولة ناشئة صحراوية الجغرافيا والمناخ. بينما شيوع فكرة قومية الإسلام كانت لتقضي على هذه الفتوحات في مهدها.

وعندما بدأت الفتوحات لم يكن إيقافها ممكنًا طالما وُجدت الجيوش القوية والجيران المتخبطون الضعفاء، وقد اختلط الأمر بالجزية المفروضة على البلاد المفتوحة والخراج في مناطق أخرى، وهنا ظهرت الحاجة لظهير شرعيى إذلم يقم الرسول بمعارك لغرض الفتح أو مجرد الدعوة للإسلام في حياته، فجاء التشريع لما يسمى في الفقه جهاد الطلب وهو النوع الذي تم اختلاقه خصيصًا لفكرة الفتوحات. ثم بعد ذلك اهتم المؤرخون والفقهاء الإسلاميون بإظهار الأمر على أنه يهدف إلى نصرة المستضعفين – وهو الهدف القرآني – بإظهار مدى رحمة الجيوش العربية وتجاهل كل الأهوال التي قامت بها تلك الجيوش. وليس من العجيب عندما يكتب العربي المسلم تاريخًا عن العربي المسلم أن يبدو بهذه المثالية الحمقاء، فلا يمكن لعقل ناقد استبعاد شبهة التحيز الأكيدة، ولبيان ذلك يكفيك قراءة أي كتاب عن الفتوحات الإسلامية في المكتبة العربية، بينما لمعرفة وجهة نظر الشعوب المستعمَرة فعليك أن تقرأ لمؤرخيهم في ذلك الوقت، ولصعوبة الموضوع والحصول على مثل تلك المراجع فإن كتابًا مثل “الفتوحات العربية في روايات المغلوبين” لحسام عيتاني يبدو جهدًا يستحق الشكر والثناء بحق.

الفكرة الثانية التي لا يسعني تجاهلها في هذا الموضع هي تلك الفكرة المتجذرة في الثقافة الإسلامية وهي فكرة اعتبار كل غير المسلم – عربي وغير عربي – كافرًا، والتي سيكون تأثير فكرة القومية عليها ثوريًا على كل حال. فإن كان الإسلام للعرب من ناحية، ومن ناحية أخرى يكون الإيمان والكفر بإزاء قضية تعرض على الإنسان فيختار أن يؤمن أو يكذّب بها فلا يمكن اعتبار غير العرب – وهم غير المستهدفين بالدعوة بالأساس – كفارًا! كما لن يمكننا التغاضي عن الحكم على فكرة اعتبار الإسلام طريقًا حصريا للنجاة بالخطأ الغارق في الوهم والنرجسية على طريقة شعب الله المختار. فلو اعتمدنا النظرية القرآنية التي تحدثنا عنها وهي أن لكل قوم هاديًا وأنه لا استثناء لهذه القاعدة فإنه – حتى بعد البعثة المحمدية – سوف يقبل الله من كل قوم دينهم، ولعل هذه النظرة هي ما تستطيع تفسير تلك الآية التي أعجزت كل المفسرين المسلمين على مر العصور وهي تلك الآية “إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ” والتي تجزم صراحة أن كل زعم بأن دينًا معينًا هو المقبول عند الله دون غيره مجرد وهم ناتج عن الانغلاقية وقصور الفهم والتدبر، كما سنستطيع أن نفهم آية مثل قوله تعالى “لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا” فالمسألة لم تكن خاضعة لإرادةٍ غير إرادة الخالق، ولا ينبغي لأحد أن يعتقد غير ذلك!

الزاوية الأخرى للنظر بالموضوع تكمن في تخيل الدافع الذي يجعل غير المسلم ينظر في الإسلام بالأساس، فلو أعدت قراءة السؤال في مقدمة المقال تدرك أنك أمام حالة عرض مباشرة من شخص يدّعي أنه رسول، ماذا لو قمنا بتعديل السؤال ليصبح: ماذا لو “سمعت” أن هناك رجلاً صينيًا يدّعي أنه رسول؟! في هذه الحالة يتغير نمط الفكير تمامًا.. أليس كذلك؟

في هذه الحالة يجب أن نسأل عن الدافع الذي يجعل هذا الشخص يتخذ القرار بالتفكير في هذه الدعوى كخطوة أولى. وهنا قد لا نحتاج أن نذّكر بأن النص لا يمكن أن يكون دافعًا لمن لا يؤمن به، ويبقى العقل دافعًا يمكن مناقشة مآلاته بشكل أو بآخر.

إن قبلنا بالعقل في إطار الدافع فيجب مبدئيًا الاعتراف بصلاحية كل ما يمكن أن يصل إليه حيث إن العقل هنا هو معيار الصواب والخطأ في غياب النص المكلِف. وبهذا يكون خيار عدم النظر في الرسالة أو الدعوى المعروضة لأي سبب ممكن هو صحيح عند صاحبه بنفس درجة صحة خيار النظر في الرسالة أو الدعوى.

ثم إن كان خيار النظر في الدعوى؛ فإن الإيمان بها لوجود براهين مقنعة على صحتها أيضًا سيعتبر صوابًا بنفس درجة اختيار عدم الإيمان بها لوجود براهين عقلية تمنع الناظر من الإيمان بها. وللمعترض على هذه النظرة أن يأتي بالدليل على استحقاق صاحب أي خيار للعقاب، فكل من يختار العقل دافعًا للنظر فعليه أن يقبل بأدوات النظر وهي البرهان بالنسبة للعقل، فكل خيار مبني على برهان فهو صحيح، وكل برهان مقنع لإنسان هو صحيح عنده. فالبرهان هو عمدة العقل! وقد ناقشنا هذه الفكرة قرآنيًا بالتفصيل في سلسلة “نعم هناك ملحدون في الجنة” المقال الأولالمقال الثانيالمقال الثالث.

ولا يبقى هنا سوى الرد على فكرة قد تخطر للكثيرين وهي حول رؤيتنا للإسلام كدين صالح لكل البشر، وللحق فإننا نراه كذلك من منظورنا الخاص للإسلام والذي قد يختلف عن إسلام الكثيرين، لكني أعود وأذكر بأن المقال يتناول فكرة الإسلام كحجة على العالم وليس مدى صلاحية الإسلام للعالم. ولو وجدنا أن الكثير من غير العرب يدخلون الإسلام، بل إن الإسلام هو الدين الأكثر سرعة في الانتشار فإن ذلك لا يعني أن الإسلام جاء لكل العالم، بل يعني أن هؤلاء الناس يجدون في الإسلام ما يجذبهم، ولعل الأوروبيين المنضمين لداعش يمثلون تجسيدًا مدمرًا لهذه الفكرة!

إننا نناقش فكرة نعتقد أنها ترتبط بالأساس بمبدأ العدل الإلهي كما نفهمه ونؤمن به، وعلى عكس ما قد يعتقد البعض فإننا نورد هذا البحث في إطار الدفاع عن الإسلام والقرآن كما نراه وإن لم تكن النتائج التي توصلنا إليها مرضية لنرجسية البعض فإن نية الحق لتبدو كافية للضمير والوجدان.

 

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد