في الفن كما في الزراعة، يلذّ للطبيعة أن توزع على غير تساوٍ خيراتها مردفة فصول جدب بسنوات خصب مفرط، وفي المجال الأدبي تكون هذه السجية الجامحة قد منحت الأدب الألماني في نهايات القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ثمارًا خصبة على يد «فرانز كافكا» (1883 – 1924) هذا العبقري المتجدد الهيئة، المقلد الأكثر بين كل المحدثين في عهده.
كان كافكا روائيًا فائق الموهبة باهرًا ذا ذاكرة إبداعية مذهلة وخصبة، يمارس جميع الأنماط بذات السهولة، فكتب دونما جهد أعمالاً على غاية من الروعة.
كافكا المثقف النباتي الحساس للأشياء ولأنماط الحياة الماكرة الخدّاعة يجد في العالم الآخر غير الواقعي لذة مسلية لجميع الملابسات التي تبهر مجده بلذع ذلك الغش البريء الذي يمثله الواقع والذي كثيرًا ما تحسس ظواهره بتناقضاته خلال حياته.
فوالده الاستبدادي المتطلب من يمتلك صفات «… ﺍﻟﻘﻮﺓ ﻭﺍﻟﺼﺤﺔ ﻭﺍﻟﺸﻬﻴﺔ ﻭﺟﻬﺎﺭﺓ ﺍﻟﺼﻮﺕ ﻭﺍﻟﻔﺼﺎﺣﺔ ﻭﺭﺿﺎ ﺍﻟﻨﻔﺲ …» كما يصفه في كتابه «رسالة إلى أبي» على عكس والدته الهادئة حد النهايات الخجولة، بالإضافة إلى أنه ذاك التشيكي المولد، يهودي الديانة وألماني اللغة دفعه كل ذلك ليعيش العزلة والتناقض والاغتراب الداخلي في حياته القصيرة بأبشع صورها وفي حالة ضياع للهوية والانتماء الذي يتحسسه القارئ من كتاباته دون عناء.
ﻓﺎﻟﻌﺎﻟﻢ ﺍﻟﺬﻱ ﻋﺎﺷﻪ ﻫﻮ ذاته العالم السوداوي الغامض ﺍﻟﺬﻱ جسده في أعماله، ﻋﺎﻟﻢ الأبطال الذين يموتون لا لشيء مفهوم، عالم العمال المقهورين بالميكانيكة في عهد الرأسمالية الجائرة والمعذبين بالقوانين الخانقة في قطع الاستبداد الزماني والمكاني.
لهذا كان الأدب ملاذه الأخير فرارًا من الواقع ليصوّره في قطع أدبية كابوسية مزعجة تورث القارئ غصة بمرارة تحيل الكابوس إلى واقع؛ لهذا استحق لقب رائد الكتابة الكابوسية أو السوداوية بامتياز.
كافكا المثقف المجروح والمنكسر من هذا العالم لم يتوقع طوال سني حياته أن ما كتبه ذات يوم سيكون ويكوّن جزءًا من التراث الأدبي العالمي، ولم يُخيل له أن تأثير كتاباته سيكون في أقصاه على الرواية الشابة المعاصرة، هذا الإحباط والنظرة الدونية لما كان يكتبه ضمن فلسفة جلد الذات التي رافقته في حياته وانعكست على كتاباته دفعته لمطالبة صديقه ﺍﻟﻤﻘﺮَّﺏ «ﻣﺎﻛﺲ ﺑﺮﻭﺩ» ﺃﻥ ﻳُﺘﻠِﻒ ﻛﻞ ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻪ ﺑﻌﺪ ﻣﻮﺗﻪ، ولو فعل لما تسنى لنا التلذذ بعذاب كتاباته.
أهم أعماله
قدم كافكا العديد من القطع الأدبية الإبداعية التي نالت شهرة عالمية، والمؤلم أن عدد قليل فقط ﻣﻦ هذه القطع ﻧﺸﺮ ﺧﻼﻝ ﺣﻴﺎﺗﻪ، وﻣﻌﻈﻤﻬﺎ ﻧﺸﺮ ﺑﻌﺪ ﻣﻮﺗﻪ. وقد تعرضت ﻛﺘﺎﺑﺎﺕ ﻛﺎﻓﻜﺎ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪ للمنع والمصادرة ومن ثم ﻟﻠﺤﺮﻕ في عهد النازية قبل أن تلقى رواجًا عظيمًا بعدها.
وﻣﻦ أهم ﻣﺆﻟﻔﺎﺗﻪ التي لاقت صدىً وجدلاً كبيرًا في أوساط المثقفين:
ﺑﻨﺎﺕ ﺁﻭﻯ ﻭﺍﻟﻌﺮﺏ Schakale und Araber
وهي قصة قصيرة تعد من أكثر قصص كافكا جدلاً لدى العرب لما يحاول فيها من إيصال رسائل سياسية عنصرية تحقيرية للعنصر العربي وتحلم بمخلص أوروبي ينقذ بني إسرائيل من «قذارة» العرب وفق رأي الكاتب.
تم نشرها للمرة الأولى في العام 1917 عام وعد بلفور المشؤوم في المجلة الصهيونية «اليهودي»، لتثير في سبعينيات القرن العشرين في الوسط الأدبي العربي جدلاً حادًا حول علاقة كافكا بالصهيونية ونظرته إلى العرب.
ﺗﺤﻜﻲ ﺍﻟﻘﺼﺔ ﻋﻦ ﻣﺴﺎﻓﺮ ﺃﻭﺭﻭﺑﻲ ﻳﻘﻮﺩﻩ رجل ﻋﺮﺑﻲ، يبيتان في وسط الصحراء بعد أن حلّ الليل لتقترب منه بنات آوى بينما كان العرب على مسافة قريبة منه. فتبدأ ﻛﺒﺮﻯ ﺑﻨﺎﺕ ﺁﻭﻯ ﺣﺪﻳﺜﻬﺎ ﻣﻊ ﺍﻷﻭﺭﻭﺑﻲ ﻋﻦ ﺍﻟﻌﺪﺍﺀ ﻭﺍﻟﻜﺮﺍﻫﻴﺔ ﺍﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺮﺑﻄﻬﻢ ﺑﺎﻟﻌﺮﺏ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻭﺻﻔﺘﻬﻢ ﺑﺎﻟﻘﺬﺍﺭﺓ . ﺑﻌﺪ ﺫﻟﻚ ﺗﺒﺪﺃ ﺑﺎﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﻣﻌﺘﻘﺪ ﻳﺘﻨﺎﻗﻠﻮﻧﻪ ﻣﻦ ﺃﻗﺪﻡ ﺃﺳﻼﻓﻬﻢ ﻋﻦ ﺭﺟﻞ يشبه ﺑﻄﻞ ﺍﻟﺮﻭﺍﻳﺔ ﻳﺄﺗﻲ ﻣﻦ ﺍﻟﺸﻤﺎﻝ ﻟﻴﺨﻠﺺ ﺑﻨﺎﺕ ﺁﻭﻯ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﺮﺏ «ﻭﻳﻨﻬﻲ ﺍﻟﻌﺮﺍﻙ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻘﺴﻢ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﺇﻟﻰ ﻧﺼﻔﻴﻦ»، ﺛﻢ ﺗﻘﺪﻡ ﻟﻪ ﺑﻨﺎﺕ ﺁﻭﻯ ﻣﻘﺺ ﺣﻴﺎﻛﺔ ﺻﺪﺉ ﻭﺗﻄﻠﺐ ﻛﺒﺮﺍﻫﻢ ﺃﻥ ﻳﺠﺰ ﺃﻋﻨﺎﻗﻬم.
ﺑﻌﺪ ﺫﻟﻚ يعود ذاك العربي ضاحكـًا ﻭﻓﻲ ﻳﺪﻩ ﺳﻮﻁ ﻗﺎﺋﻼً: «ﻫﺎ ﻫﻮ ﺍﻟﻤﻘﺺ ﺃﺧﻴﺮًا» ﻛﻤﺎ ﻟﻮ ﻛﺎﻥ ﻳﺘﻮﻗﻊ ﻇﻬﻮﺭﻩ ﺛﻢ ﻳﺘﺤﺪﺙ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﺴﺎﻓﺮ ﺳﺎﺧﺮًا ﺑﺄﻥ ﻛﻞ ﺃﻭﺭﻭﺑﻲ ﻫﻮ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺮﺟﻞ ﺍﻟﺬﻱ ﺍﺧﺘﺎﺭﻩ ﺍﻟﻘﺪﺭ ﻓﻲ ﺃﺳﻄﻮﺭﺗﻬﻢ، موضحًا ﻟﻪ ﺑﺄﻥ ﺫﻟﻚ ﻳﺤﺼﻞ ﻟﻜﻞ ﻣﺴﺎﻓﺮ ﻣﻌﻪ. ﺛﻢ ﻳﺄﻣﺮ ﺑﺈﺣﻀﺎﺭ ﺟﺜﺔ ﺟﻤﻞ ﻧﺎﻓﻖ ﻓﺘﻨﻄﻠﻖ ﺑﻨﺎﺕ ﺁﻭﻯ ﺗﺘﻠﺤﻢ ﺍﻟﺠﺜﺔ ﻏﻴﺮ ﻣﺴﻴﻄﺮﺓ ﻋﻠﻰ ﻧﻔﺴﻬﺎ. ﺑﻌﺪﻫﺎ ﺗﻨﺘﻬﻲ ﺍﻟﻘﺼﺔ ﺑﻜﻠﻤﺎﺕ ﺍﻟﻤﺮﺷﺪ ﺍﻟﻌﺮﺑﻲ الذي ﻳﺴﺘﻌﺪ ﻹﻛﻤﺎﻝ ﺍﻟﺘﺮﺣﺎﻝ.(¹)
روايته «المسخ» Die Verwandlung
«ﺍﺳﺘﻴﻘﻆ ﺟﺮﻳﺠﻮﺭ ﺳﺎﻣﺴﺎ ﺫﺍﺕ ﺻﺒﺎﺡ ﺑﻌﺪ ﺃﺣﻼﻡ ﻣﺰﻋﺠﺔ، ﻓﻮﺟﺪ ﻧﻔﺴﻪ ﻭﻗﺪ ﺗﺤﻮّﻝ ﻓﻲ ﻓﺮﺍﺷﻪ ﺇﻟﻰ ﺣﺸﺮﺓ ﻫﺎﺋﻠﺔ ﺍﻟﺤﺠﻢ …»
ﺑﻬﺬﻩ ﺍﻟﻤﻘﺪﻣﺔ المفزعة بدأ ﻛﺎﻓﻜﺎ روايته الرمزية القصيرة والرائعة «المسخ». وقد تم نشرها ﻷﻭﻝ ﻣﺮﺓ ﻋﺎﻡ 1915 لتصبح ﻣﻦ ﺃﺷﻬﺮ ﺃﻋﻤﺎﻝ ﺍﻟﻘﺮﻥ ﺍﻟﻌﺸﺮﻳﻦ ﻭﺃﻛﺜﺮﻫﺎ ﺗﺄﺛﻴﺮًﺍ.
بطل الرواية «ﺟﺮﻳﺠﻮﺭ» ﺍﻟﻌﺎﻣﻞ ﺍﻟﺒﺴﻴﻂ الكاره لوظيفته يجوب في شقاء يومي المدن كبائع متجول لا يحقق به قوته وقوت عائلته. يتمنى «ﺟﺮﻳﺠﻮﺭ» لو أن تحوله إلى خنفساء في ذاك الصباح المشؤوم وسط تلك الأسرة التي يصعب عليها تقبل هذا التحول ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻣﺠﺮﺩ حلمًا مزعجًا ﺳﺮﻋﺎﻥ ﻣﺎ ﻳﺴﺘﻴﻘﻆ ﻣﻨﻪ، ﻟﻜﻨﻪ يقتنع في النهاية أن ما يجري له هو كابوس واقعي، ﻋﻨﺪﻣﺎ يحاول جاهدًا تحريك ﺃﻃﺮﺍﻓﻪ الخنفسائية ﻓﻲ ﻣﺤﺎﻭلات يائسة ﻟﻠﻨﻬﻮﺽ ﻣﻦ ﻓﺮﺍﺷﻪ، ليعيش بعدها في ألم مستمر مع واقع أسري كاره لوجوده بينها وراغب في التخلص منه.
يموت «جريجور» في نهاية محزنة ﻧﺘﻴﺠة ﺇﺻﺎﺑﺘﻪ ﺑﺠﺮﺡ ﻋﻤﻴﻖ ﺇﺛﺮ ﺗﻔﺎﺣﺔ يرميها ﻭﺍﻟﺪﻩ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﺤﺎﻭﻻً ﻗﺘﻠﻪ، تؤدي إلى ﺗﻌﻔﻦ ﺟﺮﺣﻪ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪ وموته، ﻟﻜﻦ ﺍﻟﺴﺒﺐ ﺍﻷﻭﻝ ﻛﺎﻥ ﻣﻮﺗﻪ جوعًا ﻭﻋﺪﻡ ﻗﺪﺭﺗﻪ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﻛﻞ ﺑﺴﺒﺐ ﺍﻷﻟﻢ.
رواية «ﺍﻟﻤﺤﺎﻛﻤﺔ» ﻭﺗﺘﺮﺟﻢ ﺃﻳﻀًﺎ «ﺍﻟﻘﻀﻴﺔ» Der Prozess
وكما في روايته المسخ يستيقظ بطل الرواية «جوزيف كـ» ذات صباح ولأسباب غير معروفة ولا يتم شرحها يتم اعتقاله من فراشه من قبل شرطيين في البلدة وجرّه إلى محكمة في مكان مجهول ليحاكم بقضية لا يفصح عنها الكاتب في الرواية.
حالة من الكآبة والفوضى والغموض تسود الرواية حيث ﺗﺘﻨﺎﻣﻰ بداخل البطل ﻣﺸﺎﻋﺮ ﺍﻹﺣﺒﺎﻁ ﻣﻦ ﺃﻥ ﻳﺜﺒﺖ ﺑﺮﺍﺀﺗﻪ ﻓﻲ ﻣﻮﺍﺟﻬﺔ جنايات ﻣﺠﻬﻮﻟﺔ.
ورغم أن الرواية لم تكتمل وأن كاتبها لم يكن راضٍ عن أدائها إلا أنه تم نشرها في العام 1925 لتعطي نموذجًا فوضويًا لقطع زمانية للحالة القانونية المتسلطة التي يساق لها المواطن الألماني دون وجه حق أو مبرر في بدايات القرن العشرين.
القلعة Das Schloß
وهي رواية كافكا الأخيرة والتي تم نشرها في العام 1926 لتروي قصة السيد «كـ» عامل المساحة، الذي ﻳﺤﺎﻭﻝ جاهدًا ﺃﻥ ﻳﻘﺎﺑﻞ ﻓﻲ قلعة مجهولة ﺍﻟﺴﻠﻄﺔ المجهولة ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺤﻜﻢ ﻗﺮﻳﺔ مجهولة أيضًا رغبةً منه ﻓﻲ ﺃﻥ ﻳﻌﻤﻞ ﺑﻬﺎ ﻣﺴّﺎحًا للأراضي.
يسعى بطل الرواية في نضال كئيب باحثًا عن اعتراف بكيانه وبوجوده الذي لم يقدره أﻭﻟﺌﻚ ﺍﻟﺬﻳﻦ لم يعترفوا بحقه ﻓﻲ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﺑﻴﻨﻬﻢ.
لكن قبل موت ﻛﺎﻓﻜﺎ الذي لم ينهِ الرواية ﺍﻗﺘﺮﺡ ﺃﻥ ﺗﻨﺘﻬﻲ ﺍﻟﻘﺼﺔ ﺑﻤﻮﺕ ﻣﺴّﺎﺡ ﺍﻷﺭﺍﺿﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﺮﻳﺔ ﻭﺗﻌﻠّﻤﻪ ﻋﻠﻰ ﻓﺮﺍﺵ ﻣﻮﺗﻪ أﻥ ﺍﻟﻘﻠﻌﺔ ﻣﻄﻠﺒﻪ ﺑﺎﻟﺤﻴﺎﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﺮﻳﺔ ﻟﻴﺲ ﻣﻘﺒﻮﻻً ﻟﻜﻦ ﻧﻈﺮًا ﻟﻠﻈﺮﻭﻑ ﺍﻟﺨﺎﺻﺔ ﻓﺈﻧﻬﺎ ﺳﺘﺴﻤﺢ ﻟﻪ ﺑﺎﻟﻌﻴﺶ ﻭﺍﻟﻌﻤﻞ ﻓﻴﻬﺎ.
و ﻣﻦ مؤلفات كافكا أيضًا: ﺍﻟﻤﻔﻘﻮﺩ – ﺭﺳﺎﻟﺔ ﺇﻟﻰ أبي – ﺍﻟﻮﻗﺎﺩ – أمريكا – في مستعمرة العقاب – ﺍﻵﻧﺴﺔ ﻑ – ﺳﻮﺭ ﺍﻟﺼﻴﻦ ﺍﻟﻌﻈﻴﻢ – ﺟﻮﺯﻳﻔﻴﻨﻪ ﺍﻟﻤﻐﻨﻴﺔ، ﺃﻭ ﺷﻌﺐ ﺍﻟﻔﺌﺮﺍﻥ – ﻓﻨﺎﻥ ﺟﻮﻉ – ﻭﺻﻒ ﻣﻌﺮﻛﺔ – ﻃﺒﻴﺐ ﺭﻳﻔﻲ.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست