«من يأس ليأس.. من ظُلم لظلمة.. ولا أدري، كيف أخرج من هنا!
لم يكن بوسعي تحطيم جدران سجني و الفرار، والآن لم يعد بوسعي أن أحطم الألم والحزن من حول نفسي».
جُرمه الوحيد أنه يسعى في وطنٍ تعاهد أن يقاتل أبناءه حتى الرمق الأخير، جرمه أنه أراد لبلاده الحياة فأرادت له الموت وسعت إليه على بساط الظلم؛ فاغتالت كل أملٍ فيه.
لن أحدثكم عن صِغَر سنه، ولا تعليمه، ولا مستقبله، فقط أخبركم بمرضه الذي أُصيب به بين جدران الزنزانة الأربعة، «الليشمانيا» أخطرُ من سرطان الدم يتخلل جسده ليفتك به، ويسلبه الحياة وحيدًا بعيدًا عن حُضن أمه وإخوته، فـبعد أن كان يحلم باستكمال مجال الـ«Biotechnology» في جامعة «Must»، أصبح فقط يحلم لا بالحياة؛ بل بالموت، ولكن خارج ذلك المكان الذي يَضُجّ بالعَفَنِ في كل شيء. فقط يموتُ وهو في جوار عائلته.
سنتان ونصف السنة مرت من عمره أسيرًا في تلك البقعة المظلمة الضيقة من العالم، ليُدرك بعدها أن لا شيء على هذه الأرض يستحق الحياة.
حين يتعلق الأمر بالإنسانية يجب أن نتخلى عن نزاعاتنا، نُنحي كل شيء جانبًا قبل أن نتحول لمسوخ -بفرض أنه لم يحدث- يُبرر كل منا وجهته وحياة بعضنا هي الثمن. يدفع هو حياته مقابل اللاشيء، تنقضي السنون وتمضي به وهو لا يدري لماذا حدث ذلك؟ وكيف؟ ومتى؟
والأقسى أن الآلام لا تأتي فُرادى، فـبينما أنت تلهو أحدهم يتمزقُ ألمًا ومرضًا في جوف الزنزانة قابعًا خلف جدرانها، متقوقعًا في ذاتيته، ساخطًا على عالمك الذي تشكو ضيقه وهو لم يرَ منه غير الضيق.
يدفع عمره مقابل اللاشيء الذي لم يُشارك هو فيه من الأساس، ما هي تهمته؟
أمجنونٌ أنت! تسأل في بلادي عن تهمة تستحق الموت، بالطبع كان لديه هدف، يحب بلاده. فالحب في بلادي جريمةٌ يُعاقب عليها القانون، وأكبر تهمة تجعل الموت حليفك أينما حللت هي أن تكون بريئًا، فإن البراءة في عرفهم تعني سلام قلبك، وهنا في أرض الموت كل القلوب ماتت، إما من جرائم اقترفتها، أو حوادث أفجعتها، فـأفقدتها القدرة على استكمال الحياة.
ومثل أحمد بمرضه ووَهَنِه وبراءته لا يجب أن تطويه دوائر النسيان، ليس مجرد رقم، لا هو ولا غيره، ولكن لأننا نسينا أو تناسينا فصارت حياتهم في أنظارنا أرقامًا.
وأختم بإحدى كلماته: «لا أحد يسلم هنا، حتى من جلس في بيته لا يفعل أي شيء».
يصيب روحك الإنهاك، وتخبو إشراقات نبضك المليئة بالحياة؛ لأنك ببساطة لم تعد ترى فيها ما يستحق الحياة.
عزاؤنا أن كل هذا ينتهي يومًا ونسرده غير مصدقين أنه رحل، ولكن إن لم نجعل رحيله على أيدينا فـكيف نشعر حينها بلذة الانتصار بعد كل هذا الخزي الذي تأصل فينا وعايشناه!
أحمد من حقه عفوٌ صحي ليشرع أهله في علاجه، حتى وإن كانت تلك حقًّا آخر أيامه فليقضها برفقتهم، فليقضها معهم بعدما سلبتموه كل شيء حتى القدرة على رؤية الألوان. لا تكفوا عن الدعاء له، لا تكفوا عن الحديث عنه. يبعثُ استغاثاته عبر صوتنا، كلماتنا، لعل صوتنا يصل، والكلمات تُغير مجريات الأحداث.
الحياةُ حقٌّ للخطيب. أتراه ينعم بحقه في الحياة!
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست