فاجأتني الأستاذة الإيطالية الزائرة أنّا ماريّا بيوسي أثناء محاضرة لها أمام مجموعة من طلبة الدراسات العليا في جامعة مالاجا الإسبانية بتعبيرها الثوري الحاد عندما قالت بالحرف الواحد: “إننا نعيش عصر الحرية اللاحرّة”، فإذا بالحضور يعتدلون في جلستهم وينحون هواتفهم جانبًا متحمسين لسماع حيثيات هذا التعبير، ثم أخذت بيوسي تبين بإسهاب كيف أن الأمر أصبح يبدو وكأن هناك جهة أو قوة ما هي التي تحدد لنا مجموعة الأفكار والممارسات التي يجب أن تدرج دون غيرها في باب الحريات، وكيف أن العقل الجمعي البشري أكثر تقبلًا لتصرفات كانت توصف من قبل بالانفلات والغوغائية واللاأخلاقية بفضل التوظيف السلبي لكلمة “حرية”.
بات كل منّا وكأنه عبارة عن ترس صغير في ماكينة عملاقة لا سبيل له إلا أن يدور في نفس اتجاه دوران باقي التروس وإلا فسينكسر أو تلفظه الماكينة، فتصبح أمام خيارين، إما أن تواكب المجتمع في طيشه وعبثيته باسم الحرية، أو أن تعيش في حالة من الاغتراب وعدم الرضا عن نفسك ومحيطك، وهذا بالطبع شيء قاسٍ جدًا على النفس البشرية التي تميل بطبيعتها للانقياد والمسايرة.
إن ما يحدث في العالم منذ عدة عقود وحتى يومنا هذا يحمل الكثير من معاني القسوة والإجبار المغلفة بطريقة تامة ومحكمة بمظاهر البهجة والاستمتاع والانطلاق بحيث تجعلنا نشعر وكأننا بحق أصحاب قرار فيما نفعل وأن ما نقوم به هو صدقًا التعبير الأمثل عن قيم الحرية، وهذه كذبة كبيرة جدًا، أكبر حتى من قدرة الناس على الإدراك والتحليل، نحن كالبرغوث الصغير الذي يولد ويقضي حياته ثم يموت على ظهر حيوان، وهو يحسب أن ظهر هذا الحيوان هو كل الكوكب.
وقالت بيوسي التي تجاوزت الستين عامًا، أنها كأستاذة جامعية في بلد أوروبي تجد نفسها متوجهة لا إراديًا نحو الحديث عن حرية المرأة وحرية الإجهاض وحقوق المثليين ومتعاطي المخدرات… إلخ، وفي المقابل نتجاوز بانحطاط الحديث في مواضيع أكثر ارتباطًا بالحرية الحقيقية، أصبحنا لا نتحدث مثلًا في الحرية السياسية ظنًّا منّا أننا الآن نقيم منظومة سياسية ديمقراطية نموذجية، وهذا غير صحيح بالمرة، فالتجربة الديمقراطية الغربية بحاجة لإعادة تقييم للبحث عن سبل لتطويرها وتلافي عوارضها السلبية، بل والأدهى أننا أصبحنا نسعى لفرض نموذجنا الديمقراطي المعيب بشكله الحالي على شعوب العالم، ما هو وجه الحرية في ذلك؟!
من قال أن الديمقراطية قابلة للتصدير؟!
نظام الحكم بالأساس هو عبارة عن منتوج اجتماعي قومي فكيف لنا أن نصدره؟ بل من الأحرى بنا حرصًا على الحرية أن ندعم تجارب الشعوب الناهضة حتى تستطيع أن تقيم مفاهيمها الديمقراطية الخاصة بها.
ورغم أنها تقع في القلب من معنى الحرية فإننا نادرًا ما نتعرض للحديث عن قضية تحرير الإنسان من المادة التي أصبحت تسيطر على تفكيرنا وتتحكم في سلوكنا، ناهيك عن السوء المقصود في توزيع الثروات بين شعوب الأرض بغرض إخضاع بعضها ودهس مصالحها، وكذلك تغوّل المؤسسات المالية والمصرفية وسيطرتها على نظيراتها السياسية والعلمية وغيرها.
كما أصبح الحديث عن حرية المعتقد الديني من الأمور التي من غير المناسب تناولها في ظل أجواء الحرية المُلفقة التي نعيشها، والتي تعتبر أن الإنسان الذي يتمسك بمعتقد ديني أو روحاني هو شخص رجعي وقاصر وغير كفء للحرية، أو ربما لديه بعض المشاكل النفسية أو الاجتماعية التي تدفعه للانخراط في هذه الخرافات لكنه سرعان ما سيشفى من ذلك.
إننا وفقًا لهذا الخط المرسوم متجهون إلى حالة “الحداثة السائلة” التي أشار إليها عالم الاجتماع والفيلسوف المعاصر الأشهر سيجموند باومن، تلك الحالة التي تقترن فيها معاني الحداثة والتطور بعملية شاملة للتخلص من كل ما يمكن اعتباره من الثوابت، وتفكيك كل ما يمكن أن يمثل رابطًا بين الإنسان وشخصيته وبين الإنسان ومحيطه، بحيث تتحول كل الأشياء التي نعدها من الثوابت الصلبة في حياتنا كالعقيدة الدينية والانتماء للوطن والترابط الأسري وغيرها إلى حالة من الميوعة والسيولة تجعلها أقل مناعةً وصمودًا أمام عمليات الاستهداف الممنهج للعقل البشري بحيث تسهل السيطرة عليه ومن ثم التحكم به وتوجيهه بغض النظر عن مستواه الاقتصادي والاجتماعي والتعليمي بهدف تمديد حالة الغيبوبة الاستهلاكية التي نعيشها بينما نحسب حالنا نمارس حريتنا.
وأخيرًا وجهت بيوسي حديثها للحضور قائلة: لقد عانى جيلنا وجيل آبائنا كثيرًا من أجل الوصول للحرية، لكن يبدو أن تجربتنا انحرفت شيئًا ما، وهذا طبيعي ووارد الحدوث في التجارب الإنسانية، ولكنني الآن أضعكم أمام مسؤولياتكم كأكاديميين ومربين وباحثين لمعالجة هذا الاعوجاج، وأن تنقلوا لأبنائكم وطلابكم تجربة الإنسان مع الحرية بشكل أكثر نضجًا واعتدالًا… وحرية.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست