خرجت الجموع في الخامس والعشرين من يناير وما بعده ملتفة حول شعار واحد «عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية»، لم يريدوا وقتها إلا الحرية ولم يفكروا في سواها، فخرجوا وهم يطبقون دون أن يدروا مقولة فيكتور هوجو: «حرروا الحرية والحرية تقوم بالباقي». والتقطت الميادين للشعب المصري طوال 18 يومًا صورة خيالية نادرة يصعب أن تتكرر وهو يعيش حالة أقرب لليوتوبيا؛ فالكل متناغم ومنسجم ومتوحد خلف شعارات التحرير مهما اختلفت المشارب والأيديولوجيات والملل.

تنحى مبارك وتحررت الحرية ولكن أحدًا لم يحسن التصرف ليقوم بالباقي ويكمل طريق الثورة حتى نهايته؛ وذلك لأن الجمع بدأ يحسب حسبته ويستفيق من حلم التحرير الوردي ليسأل كل واحد نفسه سؤالًا تأخر كثيرًا: «لماذا أريد الحرية وكيف سأعيشها؟ وما الذي تمنيت أن أتحرر من أجل أن أعيشه؟» وهو سؤال منطقي وبديهي إن لم تكن الجموع غير المسيسة أو المؤدلجة تدرك إجابته فإن كل من مارس السياسة يدركون، ولكنهم فقط التهوا ولم يصدقوا الاستجابة الشعبية لمطلبهم وكسرهم حاجز الخوف، ورأوا أن اللحظة لحظة فارقة ناضل لها الشرفاء سنوات طوال ودفعوا من أموالهم وصحتهم وحياتهم ثمنًا لها  فكان يجب ألا يضيعوها ويخوضوا التجربة دون تفكير.

لذا فإن المؤمرات والدسائس التي حاكتها الدولة العميقة ومؤسساتها لم تكن هي السبب الوحيد في ظهور الفرقة والضغائن بين رفقاء التحرير؛ وإنما هي طبيعة الإنسان وميوله وانتماءاته في المقام الأول والتي جعلت هذا يتربص وذاك يتآمر ويساوم، وهذا يحذر وذاك يراقب ويترقب! ضاع الحلم الجميل بعد أن عاد الجميع إلى أرض الواقع وانفرط عقد التحرير والثورة، ولم تكن ثمان سنوات هي عمر الثورة أصبحت فيها الحرية سرابًا كفيلة بالتئام حبات ذلك العقد ولن تكون ثمانون سنة قادمة كفيلة بذلك طالما نحن عالقون في متاهات أو منتصف طريق فلا نحن نتقدم ولا نحن نتأخر.

في بلد عربي إسلامي ينتمي أهله للإسلام إما دينا أو حضارة؛ لا يجوز أن نتوقف كثيرًا ونحن نبحث عن إجابة للسؤال السابق: «لماذا نريد الحرية؟» أوالسؤال التالي: «تحت أي مظلة نريد تطبيق شعار التحرير الخالد: عيش، حرية، عدالة اجتماعية؟» ولكننا توقفنا، فصحيح أن الجميع يريد العيش والحرية والعدل ومحاربة الفساد والمفسدين ولكن لكل رؤية وطريق في الوصول إلى ذلك. ولم يكن لهذه الأسئلة والمخاوف أن تدور بخلدنا لولا تلك الحرب الشعواء التي تشن على هويتنا منذ زمن والتي وصلت هذه الأيام إلى ذروتها، وتبني بعض النخب لمفاهيم التغريب وبناء دول علمانية صريحة دون خجل أو تردد غير مدركين أن ما نحن فيه إنما هو صدى لتلك المفاهيم! ومن ثم لم يعد العيش والحرية ومحاربة اللصوص هي الإشكاليات الوحيدة التي تواجهنا، إذ زاد عليها إشكالية الهوية وإستعادة تاريخنا المنهوب من قوى الاستعمار القديم ونخب الاستعمار الحديث.

وإشكالية الهوية في حقيقة الأمر تفوق في أهميتها وآثارها أي إشكالية أخرى، فإذا كنا نبحث عن العيش فكيف نريد عيشنا وغذاءنا للبسطاء ومحدودى الدخل، مدعومًا أم بغير دعم؟ وإذا كنا نسعى للعدالة الاجتماعية فأي عدالة نتوق لتطبيقها عدالة اليمين أم عدالة اليسار أم عدالة السماء؟ وما هي مواقفنا من القروض الربوية وصندوق النقد؟ وما هو شكل الحرية التي نتمنى؟ حرية بالمفهوم الليبرالي أم حرية مضبوطة بالإسلام؟ وعلى الصعيد الخارجي كيف نرى الدولة وعلاقتها بالعالم؟ دولة تابعة أم دولة رائدة منتجة؟ وما موقفنا من الكيان الصهيوني ومن دول تمارس التجبر والطائفية وفرض الهيمنة والوصاية علينا؟ أسئلة كثيرة وغيرها أكثر لن يحسمها إلا إجابتنا على سؤال الهوية.

ونحن كمصريون أو كعرب يفترض أن هويتنا معروفة ولكن البعض يريد أن يطمسها عن عمد فيسبب البلبلة والارتباك في عقول البسطاء والتشرذم والفرقة في صفوف الثورة. ولا حل للخروج من هذه المتاهات إلا بالرجوع للحق والاعتراف بالحق فضيلة، والحق إننا عرب ومسلمون وهذه هي هويتنا ومرجعيتنا الوحيدة. ومن يتنصل من تلك الحقيقة واهم ولا يصح أن يفرض رأيه على جموع تعيش تلك الحقيقة دون تكلف منذ مئات السنين دون الحاجة لتنظير ومزايدات.

فعلى الرغم من الضغوط الرهيبة التي مورست وما زالت تمارس بشدة على الشعوب العربية من النظام العالمي وأدواته لتغيير هويتها ونمط عيشها؛ إلا أنها ما زالت تكافح للتمسك بتلك الهوية في حرب شرسة واجهت فيها الشعوب الانقلابات والبراميل والسجون والتشريد وكل صنوف العذاب والقهر. وفي تلك الحرب جاءت النخب العلمانية سابقة الذكر على صنفين: الأول انتقل مباشرة من صفوف الثورات إلى صفوف الثورات المضادة التي تتبنى العلمانية وتدافع عنها، والثاني ظل يدافع عن العلمانية داخل صفوف الثورة ولكنه أخذ يضحك على نفسه ومن حوله واهمًا إياهم بأن ما يحدث ليس صدامًا في الأصل بين  المتمسكين بالهوية وسدنة العلمانية وإنما هو بسبب «التطرف والإرهاب» وكأنه لم يعش تلك الثورة أو يعايش من فيها أيامًا طويلة كان حينها من يصفهم الآن بتلك الصفات هم أول المدافعين عنه في الميادين!

لذلك كله ولغلق أبواب الشياطين التي تزين لنا الباطل وجب حسم الإجابة على سؤال الهوية على الأقل مع أنفسنا؛ وإن لزم الأمر مع الأطراف الأخرى إن أصرت هى على الحصول على إجابة قبل المضي قدمًا في أي شراكة. وعلينا أن ندرك جيدًا أننا في الوطن العربي لا يمكننا أن نستورد أو نستنسخ تجارب لدول أخرى في المنطقة بحجة أنها تحقق نجاحات كبرى على أكثر من صعيد؛ وذلك لأن هذه الدول دول ورثت العلمانية وما زالت تتمسك بها. والعلمانية والإسلام نقيضان لا يستويان، فالعلمانية لا ترى في الإسلام إلا عقيدة تخص المسلمين، بينما الإسلام عقيدة وشريعة تضمن العدل للناس جميعا؛ وهذه القوانين والشريعة الربانية مكانها التطبيق على أرض الواقع لا أن تظل حبيسة أدراج العلمانيين. وإن كنا نعجز الآن أن نجد نموذجًا إسلاميًا يحتذى فهذا لا يعني عدم وجود ذلك النموذج وإنما علينا أن نبحث قليلًا في سنوات مضت كان المسلمون فيها يحكمون نصف العالم قبل أن تتمكن منهم قوى الاستعمار والصهيونية. ولا يعني فشلنا في الاتفاق مع التيارات الأخرى فشل مشروعنا أو فكرتنا؛ فلكل الحق في اختيار طريقه بنفسه وإدارة معركته بالشكل الذي يريد أو حتى الانسحاب تمامًا من المعركة . وفي كل الأحوال ستظل سنن الله في أرضه وخلقه ماضية بنا أو بغيرنا وإن لم نكن نحن سببًا في التغيير فسيكون غيرنا ونحن الخاسرون.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد