«هوَّ هيفضل حاجة من الثورة دي غير الصور؟» سؤال طرحته أثناء مناقشتي مع والدي عن النظام الحالي، ضمن مناقشاتنا القليلة جدًّا لأنه دائمًا ما يحمر وجهه وتظهر علامات الغضب عليه، خوفًا منه أن يدفعني هذا السؤال لانتقادات كثيرة وانجراف إلى رأي آخر. فيسكتني في لحظتها بالكلمات ذاتها «إنتي لسه مش عارفة حاجة، مش عارفة اللي بيحصل، في حاجات كتير مش واضحة لينا، امشي مع التيار. غير كده مش هتفلحي».
تغضبني تلك الكلمات، أكثر من غضبه هو عليّ لسماع رأيي. يا أبي ما عدت بالطفلة المغتربة التي لا تعلم شيئًا عن بلدها غير عاصمتها، يا أبي أصبحت طالبة في العلوم السياسية، كل دراستي محورها الأنظمة السياسية، هذه الأنظمة المدعية أنها تحمي شعبها، هذه الأنظمة التي تلعب دور البطولة في التمثيل علينا أنها تخدمنا ولكنها لا تمثلنا، إنها تخدعنا.
أيقنت أنني ضد تفاهات هذه السياسات التي يجب أن أحترمها، وأبرر أفعالها، وأؤمن بأقوالها.
تقول لنا أمريكا إنها بلد الديمقراطية الأولى ولكنني لا أصدقها مهما حاولت أن تظهر ديمقراطيتها بشتى الطرق. ديمقراطيتها يا أبي مبطنة بالفساد والكره للعالم العربي. ولا أجد في سياساتها ما هو المبهر ولا المحَنك. لأنها معروفة، لو سألوني عن حركتها القادمة، فسهل التنبؤء بها. ولو كنت ألعب القمار بكل ما أملك، سأضع أموالي كلها رهنًا للأسئلة المتعلقة بسياستها، لأنها تلعب دائمًا دور البطولة وهي في الحقيقة تنهش قضيتنا وتسترخص دماءنا ولا يهمها دوامنا.
وحتى هيئة الأمم المتحدة المدعية أنها تحافظ على السلم والأمن الدولي وحتى دور مجلس الأمن «العظيم» الذي في الحقيقة يساعد على تحالفات الدول الكبرى في قمع الشعوب العربية. ولم أقتنع يومًا بأي حزب سياسي فنهايته الانجرار خلف المناصب، وكل همها الوقوف على المنصة وأن يصدر الخطابات المؤثرة المُجردة من الأفعال، يرتدون البذلات الفاخرة ويظهرون على قنوات التلفاز بمظهر لائق مهندم لقول بعض الشعارات المزيفة والكلمات المزينة المليئة بالنفاق. ألم تعجبك شعارات الثوار حينها؟
«مش هنخاف مش هنطاطي.. احنا كرهنا الصوت الواطي».
«الإصلاح بقى شيء مطلوب.. قبل الشعب ما يأكل طوب».
«عيش حرية عدالة اجتماعية».
أتذكر أن هذا المشهد هو ما حرك فينا مشاعر الانتماء للوطن أكثر من ذي قبل، يا أبي.
ولكنهم يكرهون هؤلاء الشباب الذين تشتم منهم رائحة الحرية والغضب من بُعد أميال. يمقتونهم، يكرهونهم وهم ملثمون بالكوفية مثلًا أو مصابون من جراء نطقهم بالحرية. يكرهون الثوار.
عروق هؤلاء الشباب النافرة، وهتافهم العالي، تفردهم بكلماتهم الخاصة واللحن الذي يأتي مع هذه الكلمات، لا يحتاج إلى موسيقى.
أكرهنا عندما نتباهى بعدد اتفاقيات السلام التي نعقدها مع الأعداء فكيف تريدون مني أن أقتنع بهذا؟ ربما نحن غير محتلين ولكننا خاضعون وأنا أكره الخضوع.
فنحن لن نصنع الحرية أبدًا، لأننا خائفون، ولن نخلق الكرامة لأننا ضعفاء دائمًا ما نحتاج مساندة منهم، ولن تقوى يدانا على بناء دولة تستطيع أن تقرر مصير الشعوب العربية الأخرى المجاورة ما دامت أيدينا مرتعشة وننتظر الاتفاقيات والتصويت على القضية الفلسطينية أو استعادة كرامة الشعب السوري.
فالقضية الفلسطينية واقعها بات معروفًا ولن تسمح الولايات المتحدة الأمريكية بإدانة إسرائيل أبدًا في جلسات الأمم المتحدة.
والآن تخفض جناح الذل لروسيا لتدير الملف السوري ما دام أن ذلك لن يشكل أي أعباء عليها أو على إسرائيل،
و«سمحت» لدول الخليج بأن يسهموا في تسليح الثوار بأسلحة دفاعية. كانوا يحلمون بالديمقراطية أيضًا، يا خيبتاه! كيف لهم؟ اندثرت أحلامهم بسبب المصالح الدولية، فهناك أكثر من مائة ألف قتيل، حتى اللحظة، في سوريا، عدا الجرحى والمفقودين والمشردين والمهاجرين والجوعى والمرضى ومن ضلت بهم السبل.
ما لدينا من الثورة، إننا سندرسها، وندَرسها لأبنائنا وسيشعرون بالفخر ومن ثم سيسألون: وماذا فعلتم بها؟ سنصمت، وسيطول صمتنا.
أبي، أعلم أنك عاشق للحريات، فلا تحجر عليَّ حريتي في مثل هذه المواقف.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست
علامات
أمريكا, اتفاقيات السلام, الثوار, الثورة, الديمقراطية, السلام, القضية الفلسطينية, الوطن, فلسطين