تقول الكاتبة اللبنانية مادونا عسكر: «الحر هو من وقف أمام نفسه وتصرف بصدقٍ ودون مواربة، حتى وإن لم يكن بإمكانه ممارسة حريته الاجتماعية، ومتى وقف الإنسان أمام ضميره وأصغى له؛ وجد أن كل سلوك أو فعل أو تفكير مباح له، وإنما ليس كل شيء يوافق كرامته الإنسانية. والحر هو من لا يسمح لخوف أو فكر أو سلوك أو اختبار أو جماعة أو أيديولوجيا أن تسيطر عليه، عندها فقط يمكن للإنسان القول إنه تحرر. الحرية بدون محبة فوضى قاتلة وعبثية، وبدون وقفة أمام الضمير، هي انتحار غير مباشر للذات، وجريمة بحق الإنسانية، فاحبب وافعل ما تشاء، واعتبر أن كل شيء مباح لك، ولكن ليس كل شيء يوافق كرامتك الإنسانية وشخصك الذي يحمل في ذاته قيمة ثمينة لا يحق لأحد ولا حتى لذاتك أن يزدري بها».
لن يرضى عنك المجتمع التقليدي إلا بعد أن يجردك من شخصيتك وميولك ومعتقداتك وكل ما يميزك، إلا أن تصبح نسخة من الجميع يشبه عقلك عقولهم، ورأيك آراءهم، وفكرك أفكارهم، أن تصبح نسخة من الجميع فكريًّا يساوي في مجتمعاتنا الراحة النفسية، مجرد اختلافك عن الآخرين يضعك في دائرة العذاب النفسي المؤبد، وتلك تسمى دائرةً، ما يعني أنه لا توجد هناك زاوية تلتقط أنفاسك بها.
أمامك خياران، إما أن يهزمك فكر الجماعة ويضمك إلى الصندوق المغلق، وإما أن تعاني الأمرين إن اخترتَ الصمود؛ فيضعك الآخرون ضمن فئة المغضوب عليهم بسبب الاختلاف، وأخطر ما في مجتمعنا أنه يجعلك تفقد احترامك لذاتك، ونتقبل منه الصفعة في وجه الكرامة على أنها قبلة في خدِ الرضى، وهذا هو ما يخلق مجتمعًا منافقًا متناقضًا لا حياة فيه.
كل من هو على هذه الأرض يواجه عقبات في سبيل تحقيق أحلامه إلا نحن، عقباتنا مضاعفة ولنا من نصيب كل شيء ما نستحق وما لا نستحق، لا بيئة ولا مجتمع ولا أعراف ولا حتى قوانين تنصفك، نعيش ونموت ونحن نحارب، وكأننا خُلقنا في صراعٍ لأجل الصراع فقط.
«الاختلاف لا يفسد للود قضية»، لا نخدع أنفسنا نحن أكثر شعوب العالم، نكرر هذه المقولة ولكننا نفسد كل القضايا بالصراع، وبكافة الوسائل الممكنة والمتاحة، وللأسف هنالك اختلافات أفسدت الود كله وأفقدت القضية، نعم أفقدتنا نقطة التركيز وأصبحت عيون الناظرين ملتفتةً جانبًا إلى المطالبة بأبسط الحقوق لا أكثر.
ولا ننسى هنا أن ننوه إلى أن الحريات باختلاف أنواعها شبه منعدمة في مجتمعنا العربي عامةً، حتى ما يطلق عليه «الواقع الافتراضي» الذي كان سبب بداية ثورات الشعوب الأخرى أصبح في مجتمعنا مراقبًا ومقيدًا، الحرية لا وطن لها، الحرية سماء والسماء وطن الجميع.
ما يحدث هنا أن الأرض متصدعة، وأينما وَطِئْتَ بأقدامك لن تسلم، فأنت معرض للخطر، والجميع يضع نفسه موضع «القدِيس»، يمنح من يوافقه الرأي الجنة، ولمن يخالفه النار، أي عليك أن تقذف باعتقاداتك وأفكارك، لتسلك طريقًا آخر رغمًا عنك لترى نور الشمس، وإلا ستبقى في ظلام دامس.
الشعوب التي تفتقر الحرية وتعددية الآراء غالبًا ما يسودها الفساد وسيادة الصمت الجماعي، وهذا تمامًا ما أوصلنا إلى مرحلة اللاعودة، وأصبحنا كالفقاعات المليئة بالشر والعدوانية المهيأة للانفجار في أي لحظة.
خلاصة الحديث، عندما يتعلم الجميع أن الاختلاف لا يفسد الود الذي بيننا؛ عندها تصبح حرية الرأي ظاهرة حميدة لا خوف منها، تُخْرِجُ من تصدعات الأرض أشجارًا مثمرةً بدلًا من تركها لساحةٍ من الإقصاء المتبادل؛ لا لكي نغدو عربًا صالحين، ولكن لنكون بشرًا إنسانيين، ولكل منا ناصية البلاغة في أمره.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست