تحضيرات صناعة القنبلة النووية الفرنسية

بعد أكثر من 60 سنة، تأبى ذكرى التفجيرات النووية الفرنسية بمنطقة رقان بولاية أدرار الجزائرية النسيان، وتأبى الطمس، فالحقيقة لا تطمس بالتقادم، والجريمة لا تسقط بالتقادم كذلك، وما ارتكبته فرنسا ذات يوم من 13 فبراير (شباط) من عام 1960، لا يمكن نسيانه وتجاوزه.

في 13 فبراير 1960 نفذت فرنسا أول تفجير نووي لها في الصحراء الجزائرية في منطقة رقان، خلال عملية أطلق عليها اسم «الجربوع الأزرق»، تم خلالها استخدام أربع قنابل نووية والتي كانت بقدرة تفجيرية تتأرجح ما بين 10 و70 كيلوطنًّا.

فرنسا الحقوق والحريات والإنسانية، فرنسا الحضارة والرقي والمدنية كما ادعت وتدعي إلى اليوم، ظهر وجهها القبيح النازي عبر سلسلة من التجارب النووية التي كان فيها الجزائريون سكان منطقة رقان مثل فئران تجارب، لقد اتخذت فرنسا من منطقة مأهولة بالسكان حقلًا لتجاربها فقط من أجل أن تكون قوية، وتضمن مكانها بين الأقوياء، ولكن أي أقوياء؟

سياق التجارب النووية الفرنسية:

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وانقسام العالم إلى معسكرين اثنين أحدهما شرقي يدين بالنظام الشيوعي في السياسة والاقتصاد والأيديولوجيا، والثاني غربي رأسمالي يؤمن بالحرية الاقتصادية والسياسية المطلقة في تسيير شؤونه، وكلا النظامين متناقضان حد التنافر والخصام.

وهكذا بدأت الحرب الباردة تعمق الخنادق بين المعسكرين، فسارعت القوى المنتصرة من كلا المعسكرين في سباق محموم نحو التسلح، خاصة التسلح بأسلحة غير تقليدية، أسلحة الدمار الشامل، وعلى رأسها السلاح الذري النووي، من أجل الردع وإرهاب الأعداء، أو هكذا فكر المنتصرون.

في خضم هذا السياق، سارعت فرنسا في الدخول مبكرًا إلى ميدان التسلح الذري لتضمن مكانتها ضمن القوى النووية، فعملت على تجنيد كل إمكانياتها ووسائلها المادية والعلمية والبشرية من أجل الوصول إلى إنتاج سلاح نووي، تكون فيه قوة نووية من جهة وتتخلص من الهيمنة الأمريكية، وتكون رائدة من رواد أوروبا والعالم.

بالنسبة للجنرال ديجول فالمشاركة الفرنسية في المنافسة الدولية حول امتلاك السلاح الذري قضية وطنية ذات أهمية قصوى، للحفاظ على السيادة الوطنية، فلا يجب أن يكون لدى فرنسا حامٍ، ويجب تسخير كل الوسائل المادية والبشرية والعلمية من أجل الحصول على السلاح الذري، هذا مختصر ما صرح به الجنرال ديجول ذات يوم من عام 1960.

إلى جانب القضايا العسكرية والجيوسياسية التي تحتم على فرنسا الدخول في سباق الحصول على السلاح الذري، كان هناك دافع اقتصادي مهم، والمتمثل في الإرادة الفرنسية في السعي الحثيث لتطوير الطاقة النووية لاستخداماتها السلمية من أجل تنشيط الاقتصاد الفرنسي.

يذكر جون ماري كولن (Jean-Marie Collin) الخبير النووي والمتحدث الرئيسي للحملة الدولية لحظر الأسلحة النووية (ICAN France) أن الدولة الفرنسية سعت في وقت مبكر، منذ عام 1945 إلى إطلاق برنامجها النووي العسكري، والبدء في الاختبارات والتجارب الأولى التي ستشكل ترسانتها النووية، وبدأ الجيش الفرنسي بالبحث عن مناطق حول العالم وفي مستعمراته المختلفة حيث يمكنه إجراء هذه الاختبارات، وفي الأخير وقع الاختيار على الجزائر.

يبقى تحديد المكان بالضبط في الجزائر، فقد نظر الفرنسيون إلى هذه المسألة من زاوية أن شمال الجزائر مأهول بالسكان، أما الجنوب فهو عبارة عن صحراء قاحلة، ورمال الصحراء لا تترك الكثير من العلامات لأي اختبار أو تجربة، وبهذا جرى اختيار الجنوب الجزائري لإجراء التجارب النووية.

كانت الرؤية الفرنسية للصحراء تتمثل في أنها مناطق لا يوجد فيها الكثير من السكان وعددهم ضئيل مقارنة بالشمال، بالرغم من أنه كانت في تلك الحقبة توجد الكثير من القرى المنتشرة، وفيها سكان يعيشون فيها ويقتاتون على الزراعة والفلاحة، لكن السلطات الفرنسية نظرت إليهم على أنهم عدد يمكن إهماله ولا يؤخذ بعين الاعتبار.

وهذا ما يؤكده باتريس بوفريت (Patrice Bouveret) المدير الملاحظ للأسلحة في الحملة الدولية لحظر الأسلحة النووية قسم فرنسا «ICAN France»، في قضية اختيار المكان، بحيث إن الحافز الفرنسي لاختيار الصحراء الجزائرية لإجراء تجاربها النووية كان بدافع أن: «ديجول كان يأمل في الاحتفاظ بالصحراء الجزائرية وفصلها عن الجزائر، وإبقائها حقلًا للتجارب والاختبارات لأسلحة الدمار الشامل بما فيها النووية».

التحضيرات والاستعداد:

بدأ التحضير لصناعة القنبلة الذرية الفرنسية بدءًا من سنة 1945، والبداية كانت بتأسيس محافظة الطاقة الذرية (CEA)، ثم انطلقت الدراسات العلمية والتقنية، وحرص الجنرال ديجول على امتلاك فرنسا قنبلتها الذرية سلاحًا رادعًا، والدخول إلى نادي الأقوياء، مهما كانت التكلفة البشرية والمالية.

لقد كان مشروع القنبلة الذرية لفرنسا أولوية وطنية، وتم رصد ميزانيات ضخمة لها صنفت في إطار سري- دفاع، وبدأت عملية بناء المواقع الخاصة بالطاقة النووية، ومواقع التفجيرات النووية، لتتمكن بعدها المحافظة من إجراء التجارب والاختبارات الضرورية.

وبدأ البحث عن مواقع إجراء التفجيرات والاختبارات اللازمة، وبدأ البحث بمنطقة الألب (ALPES)، ولكن الأخطار الجيولوجية كانت كبيرة ولا يمكن تحملها، فاتجه البحث بعدها إلى منطقة كورسيكا، ولاعتبارات التعبئة الشعبية، والرد العنيف للنخب والسياسيين بالمنطقة، تم استبعاد منطقة كورسيكا خلال ثلاثة أسابيع من الاقتراح.

وفي الأخير وقع الاختيار على أقصى الجنوب الجزائري، بمنطقة رقان، وبالضبط بالمنطقة المسماة تنزروفت ويطلق عليها صحراء العطش، أو صحراء الصحاري، المنطقة تبدو مثالية بالنسبة لفرنسا، فقد كانت السلطات الفرنسية تبحث عن منطقة مهجورة لا سكان فيها، ولكن منطقة رقان مأهولة بالسكان ويسكنها نحو 40 ألف ساكن أصلي في المنطقة.

والبداية كانت بتشييد مدينة جديدة بدأ العمل على تشييدها بدءًا من سنة 1958، لإسكان نحو 10 آلاف عسكري سيكونون مكلفين بإجراء التجارب الأولية للقنبلة الذرية الفرنسية، كما قسموا المنطقة إلى:

– منطقة رقان الهضبة

– منطقة رقان الواحات

– منطقة حمودية والتي تبعد 50 كلم عن رقان حيث تم إنشاء مقر قيادة الرمايات مع مخابر تحت الأرض.

– منطقة النقطة صفر وتقع على بعد 15 كلم جنوب حمودية وتغطي مساحة تقدر بأكثر من 100 ألف كيلو متر مربع.

وفي سنة 1959 أصبحت القاعدة العسكرية الفرنسية برقان عبارة عن مدينة كاملة بكل مرافقها، يقيم فيها أكثر من 6500 عسكري بما فيهم خبراء من دول حلف الناتو وإسرائيل، ونحو 3 آلاف مواطن جزائري من أهالي المنطقة (هذا داخل القاعدة العسكرية الفرنسية، بينما كان هناك تجمعات سكانية أخرى لأهالي المنطقة خارج القاعدة المدينة).

من الناحية العسكرية فقد تم اعتبار المنطقة منذ سنة 1960 منطقة عسكرية محرمة يمنع الدخول إليها إلا بترخيص خاص، وقسمت إلى ثلاثة مناطق هي:

1. المنطقة المركزية ومساحتها 60 ألف كلم مربع، ومنع تحليق الطيران فوقها بصفة دائمة.

2. المنطقة المحيطة ببرقان وتمتد على مساحة 50 كلم مربعًا وسميت بالمنطقة الزرقاء، ومنع الطيران فوقها بصفة مؤقتة أثناء الست ساعات التي تعقب وقت الانفجار، وعلى ارتفاع 3 آلاف متر.

3. المنطقة الخضراء ومساحتها 30 ألف كلم مربع ويمنع الطيران فوقها بصفة مؤقتة لمدة 12 ساعة التي تعقب الانفجار وعلى ارتفاع أقل من 3 آلاف متر.

وبالموازاة مع هذا كان هناك تحدٍّ آخر للقنبلة الذرية الفرنسية وهو استخلاص مادة البلوتونيوم التي تعد مادة اصطناعية مهمة يمكن إنتاجها في مفاعل ذري بواسطة اليورانيوم الطبيعي، وجرى تذليل هذه العقبة، بعد أن تم تخصيص أموال ضخمة لإنتاج هذه المادة.

وفعلًا نجح فريق الجنرال بوشالي (BUCHALET)، في استخلاص مادة البلوتونيوم الأساسي في صناعة القنبلة الذرية، وذلك سنة 1955، وذلك بالمفاعل النووي بمنطقة فوبور (FAUBOURG)، وبلغت تكاليف الإنتاج بما يفوق بعملة تلك الفترة بمليار و200 مليون فرنك فرنسي جديد.

كما اتخذت القيادة العسكرية الفرنسية والمسؤولة عن التحضير للتفجير، بالمكان عينه عدة إجراءات احترازية منها ترحيل عائلات أفراد القوات المسلحة العاملة بالمنطقة من رقان، وهي منطقة التفجيرات إلى مدينة أدرار وقاية لهم من التعرض للخطر الإشعاعي.

ولكنها في المقابل ثبتت السكان الجزائريين بأماكنهم لاستعمالهم عينات بشرية لملاحظة مدى تأثرهم بالإشعاعات، وعلقت على رقبة كل مواطن جزائري طوقًا كتب عليه اسمه بالكامل حتى يمكن التعرف إليهم في حالة الموت والتفحم من جراء قوة الانفجار.

وتعاملت مع الحيوانات سواء التي جلبتها للتجربة كالخيول والفئران، أو التي كانت بالمكان عينه بالأسلوب نفسه، أي تعليق طوق وكتب عليه اسم الحيوان، وكل هذا لمعرفة مدى تأثير الاشعاعات على الإنسان والحيوان في بيئته الطبيعية، مع تحديد مكان وجود كل إنسان أو حيوان قبل الانفجار، ومكانه بعد الانفجار.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد