يعدّ العلامّة ابن خلدون من أبرز مؤسسي علم الاجتماع الحديث، فقد وضع الأسس الأولى لهذا العلم كما أنه اهتم بتاريخ المجتمعات والقبائل ووضع دراسات تحليلية وفق منهجية علمية، حيث يعتبره المفكّرون بأنه أول من أسّس التاريخ كعلم مستقل بحد ذاته، فإضافة إلى شغفه بالتاريخ والفكر والفلسفة عرف أيضًا بالترحال والسفر ما بين أقطار البلاد الإسلامية، ونظرًا لمكانته العلمية والفكرية. فقد قد قرّبه العديد من الأمراء والسلاطين من بلاطهم في المغرب، حيث عمل مستشارًا، كما عيّن قاضيًا في القاهرة لنبوغه وتفوقه في علوم الشريعة، وذيوع صيته في أنحاء العالم الإسلامي، وقد ألّف العديد من المؤلفات، من بينها «مقدمة إبن خلدون» والذي اشتهر به كثيرًا وقد استخدم العديد من المؤرخين العثمانيين نظريات الكتاب لتحليل نمو وتراجع الدولة العثمانية آنذاك، كما أثرّ في العلماء الأوروبيون في القرن التاسع عشر، معتبرينه من أهم المفكرين في ذلك العصر.
وقد اختار العلاّمة ابن خلدون منطقة فرندة لتأليف مقدمته الشهيرة، نظرًا لتميّز هاته المنطقة بإرثها الثقافي الزاخر والحضاري، فقد تعاقبت عليها العديد من الحضارات منذ العصور الغابرة وذلك لموقعها الاستراتيجي، فقد شكلّت أحد الحصون المنيعة في عهد الرومان آنذاك.
وعلى بعد 390 كم من العاصمة الجزائر، تشهد مغارة «بني سلامة» بمدينة فرندة على حدث تاريخي غيّر مجرى العلوم الإنسانية بميلاد كتاب «المقدمة» الذي ألّفه العلاّمة بعد أربع سنوات من الاعتكاف داخل هذه المغارة (1375-1379)، حيث أصبحت بذلك مهدًا لنشأة علم شمل جميع ميادين المعرفة من الشريعة والتاريخ والجغرافيا والاقتصاد والعمران والاجتماع والسياسة والطبّ.
على غرار ذلك أنجبت فرندة المفكّر وعالم الاجتماع الفرنسي المستشرق «جاك بيرك» سنة 1910 واحتضنته ليصبح من خيرة المفكرين في تلك الفترة، حيث يعتبر من القليلين اللذين طبقوا مناهج العلوم الإنسانية في الدراسات المتعلقة بالسوسيولوجيا الحضرية واللسانيات وعلم النفس والتاريخ، فقد استلهم تفكيره من الوجدان العربي، وأسقط دراساته على المجتمعات الإسلامية، حيث عايش التجارب والوقائع التي شهدتها البلاد العربية، وقام بدراسة الظواهر التي نتجت عن تصادم الحضارة الغربية الحديثة والحضارة الإسلامية، كما كانت له إسهامات أخرى كترجمة معاني آيات القرآن الحكيم.
غير أن تعاقب المسؤولين على سلطة اتخاذ القرار سواء محليًّا أو مركزيًا وتجاهلم لهذا الإرث التاريخي والثقافي والحضاري، وذلك من خلال سياساتهم المنتهجة، ونقص الوعي لدى أبناء المنطقة تم طمس هاته المعالم، فغابت عن المغارة تلك القيمة الفكرية بالرغم من إقبال الزوار عليها، وتم تسجيل عزوف النخبة من مثقفي المنطقة عن البحث واقتفاء تاريخ المنطقة، فأصبحت فرندة تعرف قحطًا ثقافيًا لا مثيل له، فلا ملتقيات ولا مؤتمرات، ولا ندوات فكرية، كما انقطع الكثير من فئات المجتمع عن القراءة والمطالعة في أهمّ مكتبة في الجزائر بعد المكتبة الوطنية بالحامة، وذلك لثرائها بكتب المفكر «جاك بارك»، كما أنها تزخر بالعديد من المخطوطات والمؤلفات في شتى العلوم.
إضافة إلى الجانب الثقافي، فقد غيّبت الأنشطة الأخرى الرياضية والتربوية والفنية والترفيهية، فانعزل الأطفال وشباب المدينة المتعطّش لمختلف الفعاليات،فأفلت قدراتهم الإبداعية، ولم ينحصر هذا السبات العميق في هاته المجالات، بل توقفت عجلة التنمية أيضًا منذ سنوات، فلا مشاريع تنموية من شأنها تطوير المدينة والرقي بها، بالرغم من إنجابها للعديد من الكوادر في شتى القطاعات ورجال الساسة في مختلف الهيئات، غير أنهم عجزوا عن النهوض بالمدينة ورفع الغبن عن أبنائها، وذلك لاختلاف الرؤى والمصالح.
إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن لمن يعرف فرندة ويقارن ما بين حاضرها وماضيها، فتلك الأيقونة في العلم تعاني الأمرّين من خلال تهميشها من قبل السلطات الوصية بالمقارنة لثقلها التاريخي والحضاري، بل الأمرّ من ذلك تدهور معالمها الأساسية كالبنى التحتية من الطرقات والمباني العريقة، كما لا ننسى الحالة التي آلت إليها أحياؤها العتيقة والتي تروي قصصًا حزينة عن معاناة سكانها، فالحديث عن المشاكل التي يتخبط فيها لا تسعها هاته السطور.
فعلا تغيّر العمران فيها وتغيّرت معه بعض عادات وتقاليد الناس بحكم التغيّر الديمغرافي وتنوعّه، لكن تاريخها الحافل بالفكر الإنساني أبدًا لن ولم يتغيّر.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست