خلال أيام قليلة وجيزة من عمر الزمن انتفض الشعبان العربيان الشقيقان: الجزائري والسوداني على الرئيسين السابقين عبد العزيز بوتفليقة وعمر البشير.
أما بوتفليقة فاستمر في الحكم منذ نحو عشرين عامًا بداية من 9 من أبريل (نيسان) 1999، وفي الثاني من أبريل الجاري وبعد استمرار الحراك السلمي الجزائري لمدة 39 يومًا، أي منذ 22 من فبراير (شباط) الماضي، أعلن الرئيس المشلول بوتفليقة تنحيه وعدم إكمال ولايته المفترض استمرارها حتى 28 من أبريل الجاري.
وبالتالي بادر الشعب السوداني إلى تكثيف حراكه السلمي في ميادين السودان ضد حكم عمر البشير المستمر لقرابة ثلاثين عامًا، حتى جاء فجر الخميس الماضي 11 من أبريل (نيسان) ببيان تنحيه، وهكذا خلال النصف الأول من أبريل الجاري أقال شعبان عربيان بالحراك السلمي رئيسين من المعمرين في السلطة.
وعلى الفور انطلقت التهاني من شعوب الأمة العربية للشعبين المناضلين ولكن مع هذه التهاني التي أعادت ذكريات الربيع العربي منذ نهاية 2010 بثورة الياسمين التونسية ثم الثورة المصرية فالليبية واليمنية والسورية انطلقت غصة في الحلق تهدر من قلوب ملايين العرب.
خلال الأعوام الثمانية الماضية عرفت الأمة العربية بدقة الخداع والمناورة والالتفاف على الثورات من جانب الجيوش غالبًا حتى صارت المحاولات الثورية إلى ما يُشبه الخواء، فإما عودة النظام القديم عبر صندوق الانتخابات كما في تونس وإما خلافات وتناحر بين أبناء الوطن الواحد سواء أدت في النهاية إلى بقاء نفس النظام في السلطة كما فعل بشار الأسد في سوريا أو أدت لنزاعات بين الفصائل المختلفة تحول دون استقرار البلاد كما في ليبيا أو إفساح الخلافات لطريق التدخل الخارجي كما في اليمن، أو تأتي الثورة بنظام أكثر استبدادًا وظلمًا مثل قائد الانقلاب العسكري عبد الفتاح السيسي في مصر.
تفيد القراءة المتأنية لتنحية ستة رؤساء عرب منذ بداية عام 2011 حتى اليوم ومقتل اثنين منهم أن الأمة أمام تحد أكبر وأكثر عمقًا من انتفاضة أو حتى ثورة تستمر لأسابيع في الميادين، ويعلن عقبها رئيس مُعمر في الحكم؛ بقي فيه حتى ظهر فساد رأيه وسوء سياسته للشعب وتقريب الذين لا يستحقون على حساب الشرفاء والمخلصين فضلًا عن التبعية للعدو حتى مله الأخير.
تفيد القراءة المتأنية لإجبار رؤساء عرب على مغادرة أماكنهم من أعلى السلطة بداية من زين العابدين بن علي مرورًا بمحمد حسني مبارك فمعمر القذافي وعلي عبد الله صالح وصولًا لعبد العزيز بن تفليقة وأخيرًا عمر البشير أن الأزمة أكثر عمقًا وتغلغلًا، فلا الضغط حتى إزالة رأس السلطة ينهيها ولا الاستقرار مقبل قادم لبلادنا بمجرد زوال الحكام الطغاة وإن تمنينا ذلك وتمنت الملايين من شعوبنا بهادر الانفعالات وطيب التوقعات.
إن البعض يظن أن بقاء المتظاهرين في الميادين عقب إقالة الطغاة حل ناجع للتخلص من أذنابهم وبقاياهم جميعًا وهو الأمر المعيب على الثورة المصرية والتي حاولت وتحاول ثورات لاحقة التعديل عليه.
أما الحقيقة التي نراها واضحة فهي أن بلادنا التي تملكها وحكمها الطغاة عقودًا متوالية مؤسسون لطغيان وفساد ممنهجينِ عبر دواليب للدولة أغلبها فاسد وهدر لمستحقاتها خلف تثبيت أركان حكم رؤساء هم في الأساس ملوك لا ينوون التزحزح عن مواقعهم إلا إذا أجبروا وضُغط عليهم بما لا يستطيعون دفعه أو الحياة معه.
وهذه البلاد بمقدراتها المستباحة لسنوات طويلة متعاقبة ممتدة لا يصلح معها أن تقوم فئة من الشعب بالتذمر السلمي حتى إقالة الحاكم الظالم حتى إن أقيل تابعه كالفريق ركن عوض عوف رئيس المجلس الانتقالي السابق في السودان، فإن الأزمة تتمثل على الإطلاق في بقاء النخب الفاسدة المستبدة بشكل عام عربيًا وعدم وجود مؤسسات قادرة على حكم البلاد بعدل؛ أو حتى مجرد الإبقاء عليها.
وغالبًا في أكثر بلادنا العربية لا وجود لمؤسسة بالمعنى شبه الحقيقي اللهم إلا المؤسسة العسكرية، والأخيرة هي التي تنتظر دائمًا تلقف ثمرة الحكم والاستفادة من الإبقاء عليها كاملة بعد زوال الرئيس الذي إما أنه في عالمنا العربي ينتمي إليها أو يحرص على تحقيق أقصى قدر ممكن من المكاسب والمنافع لها حتى إذا قارب الحاكم السقوط بحراك شعبي استعدت المؤسسة العسكرية المستفيدة منه نفسها لتخلفه سواء عبر انقلاب واضح أو مستتر يأتي بعد حين.
إن أزمة بلادنا الحقيقية يجب أن نعترف بأنها أزمة وعي شعبي في مقابل فساد ذمم للملايين من نفس الشعوب، فالثوار لدينا غالبًا من حسني النية متعجلي إقالة الظالم، وهم ينسون أو يتناسون أن خلفه ملايين من الظلمة سيحرصون على استمرار البلاد والعباد على هديه وسوء تصرفه، وإن شعوبنا العربية التي لم تعرف أن تبديل رأس الأصنام من الطغاة الفسدة لا يعني تغيير مفصلات حكمهم ولا مسامهم، بل إن الحاكم أو الرأس الجديد للصنم؛ في الأعم الأغلب الأرجح يوالي ويناصر سابقه بكل ما يستطيع من قوة.
بل إن الثوار أنفسهم والنخب التي يفترض أنها تساندهم تثبت الأيام وحقائق ما يبدو ويتجلى ويظهر من حقائق عقب الثورات العربية السابقة هؤلاء هم أيضًا ينقصهم قدر كبير من الحكمة والحنكة والقدرة على فهم الحقائق على أرض الواقع والتعامل معها للحفاظ على الثورات وعدم المشاركة مع الظلمة في وأدها.
إن بلادنا العربية في الأغلب الأعم المجمل تفتقد للقدرة على إدارة التعامل مع أجواء الحرية والقيادة نحو تحقيقها كاملة أو ما تستطيع منها على أرض الواقع، وإن أرض ومعركة الوعي غائبة عن الجماهير وحتى عن جزء كبير من النخب وإن ذلك الغياب ساهم فيه الطغاة الذين تغيرهم الشعوب بجزء عامر وفير من أتباعهم، وبالتالي فإن التئام مسام العقول والنفوس وتكيفها مع آفاق الحرية لن يتأتى غفلة، بل يحتاج إلى كم كثير وغزير ووفير من التحمل والصبر ومجاهدة النفس وتقبل أن الديمقراطية رهان وآلية وخيار دائم وليس حالة يجب أن تأتي بما ومن نحب وإلا انقلبنا عليها!
إننا نود بل نأمل ونتمنى ونجتهد ونرهن ما بقي من أعمارنا على أمل نضج ووعي نخبتنا والجماهير العربية حتى تستطيع البناء على الثورات والانتفاضات ولا تفتقدها في غفلة من الزمن لتعود بلادهم سيرتها الأولى!
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست