يؤمن الجميع بأن السجن هو أم المهالك، حتى إن البعض يفضل أن يموت على أن يسجن.
ولن يعرف هول قهر السجن إلا من ذاقه وتجرع مرارته؛ فالعالم من حولك يتحرك في الوقت الذي تظل فيه ساكنًا داخل زنزانة باردة، لا تعرف شيئًا عما يدور في الخارج، وتحاول جاهدًا كل ليلة أن تتذكر وجوه من تحبهم قبل أن تمر السنون وتتلاشى كل الوجوه، ومعها ما تبقى من بقايا كيانك الإنساني، الذي سيتهدم، لذلك كل من يخرج من السجن ويعود للحياة، خصوصًا بعد مدة طويلة، يحتاج إلى إعادة تأهيل؛ فالأمر ليس سهلًا على الإطلاق أن تجد كل ما حولك قد تغير إلا أنت.
ولا تنتهي أزمة السجين السياسي بخروجه من السجن، ولكن يمكن القول إنها قد تبدأ!
في السجن تمر الأوقات عن طريق الأحلام، الحلم بالزواج، بالسفر، بالعمل بأي شيء، لكن عندما يخرج السجين ويصدم بالواقع المرير، يشعر وكأنه ما زال مقيدًا رغم أنه حر.
فلا وظيفة حكومية ستقبلك، ولا حتى في القطاع الخاص؛ فكل الأعمال الآن تطلب فيشًا جنائيًّا،، ومن هو صاحب رأس المال الذي سيخاطر ويقبل أن يعين شابًّا كان معتقلًا سياسيًّا من قبل؟!
أجد نفسي مثالًا يمكن أن يكون أفضل من رتابة التوضيح، فأنا قد سُجنت خمس سنوات بحكم عسكري، وأكرر أنني قد سجنت ولم اعتقل؛ فالاعتقال ينتهي بخروجك، أما السجن فله تبعاته التي ستستمر معك لسنوات طويلة.
تخرجت في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية داخل السجن، ثم أكملت تمهيدي الماجستير أيضًا داخل السجن، وقد كانت صدفة مثمرة لي أن أدرس العلوم السياسية نظريًّا وعمليًّا.
عندما خرجت منذ أكثر من شهرين كنت مثقلًا بالأحلام والخطط لمستقبلي؛ فأخيرًا يمكنني أن أتقدم لوظيفة معيد، وأعلم ما تعلمته، أو أن أعمل بأي وظيفة لها علاقة بالعلوم السياسية، قبل أن أصدم بالواقع المرير.
لن أُعيَّن في أي جامعة نظرًا لكوني سجينًا سابقًا، كما تثبت ورقة الفيش الجنائي الخاصة بي، والتي ستفضحني دائمًا بأني قضيت زهرة شباب عمري داخل السجن بتهمة – قانونيًّا– مخلة بالشرف.
لكني تقبلت الأمر الواقع بعناء شديد، وقررت البحث عن أي عمل، مهما كان، فأنا لا أطيق المكوث بالبيت، ولن أكمل بقية حياتي هكذا، لكن كل من يطلب شابًّا للعمل مهما كان العمل مضنيًا، يشترط الفيش الجنائي؛ ليتأكد أن طالب الوظيفة لم يسجن من قبل!
لم أعرف ماذا أفعل، وصدقًا لا أعرف حتى الآن؛ فالسفر ممنوع، والعمل ممنوع، ولكن ابتسم فأنت لست سجينًا، أنت حر!
ثم فكرت في السير في إجراءات رد الاعتبار، والمقصود برد الاعتبار هو محو الآثار الجانبية للحكم بالإدانة، بحيث يأخذ المحكوم عليه وضعه في المجتمع كأي مواطن لم تصدر ضده أحكام جنائية.
فسألت أحد المحامين عن المدة القانونية التي يجوز لي بعدها رد اعتباري، قال لي 12 سنة!
استمعت له ثم أغلقت هاتفي ومعه كل أحلامي.
إذا كنت تريد أن تصبرني ببعض الكلمات الجوفاء التي تقول بأن هذا النظام لن يستمر، وبالتالي كل ذلك سينتهي، فأرح نفسك؛ فأنا لا أؤمن بأن هذا النظام سيسقط، وإن سقط لن يكون لأي من أطياف المعارضة دخل في ذلك، لكن النظام لن يسقط إلا من داخله، ولكن للحق قضية إسقاط النظام أو بقائه لم تعد تهمني؛ فالتأثير المخدر لإعلام المعارضة لم يعد يغيب عقلي، فأصبح الجميع في نظري كأحمد موسى!
لقد اتهمت بالتظاهر والانضمام لجماعة إرهابية، ويعلم الجميع، وفي بدايتهم جهاز الأمن الوطني، أنني لم – ولن– أنضم لأي حزب، حتى إنه كان من السخيف وقتها أن تتهم شابًّا لم يبلغ بعد الـ20 ربيعًا بتهم لن يقدر على فعلها إلا أبطال مارفل!
ضاعت أكثر من خمس سنوات من عمري، ولا أريد أن يضيع منه شيء آخر، أريد أن أكمل بقية حياتي كأي إنسان، لم أعد أطيق السياسة، رغم أني عشقت علمها وكويت بنارها، لكني حقًّا اكتفيت منها ومن شررها.
في الوقت الحالي، وبعد التظاهرات التي دعا لها محمد علي، تأكدت أن النظام يعمل على تحسين صورته عن طريق تقليل الضغط على المواطنين بأي إجراءات، حتى وان كانت لا تسمن ولا تغني من جوع، مع تشديد القبضة الأمنية في الوقت ذاته، حتي لا يظن البعض أن هذه الاجراءات نابعة من خوف، أو نتيجة التظاهرات الجريئة.
وفي هذا المناخ المضطرب فكرت لماذا لا يعدل قانون رد الاعتبار بالنسبة للقضايا السياسية؟
ألا يكفي للمشرع سجني خمس سنوات عقابًا على تظاهرة سلمية لم أفعل بها أي شيء غير الصراخ؟!
هل لأنني تظاهرت عندما كان عمري 19 سنة سأعاقب طوال حياتي على تظاهرة سلمية، هي في القانون البشري وفي كل بلدان الكون – ما عدا بلدان العالم الثالث- حق بشري وجودي.
وحتى لا يكون تفكيري خياليًّا عن إجراء تعديل تشريعي جديد للقانون، فكرت أن تحجب القضية الأولى سياسيًّا من الفيش الجنائي للمسجونين، أو أن تكون الكرة في يد الأمن الوطني، إذ أتقدم بطلب لإدارة الأمن الوطني باستخراج ورقة تفيد بأني لست منضمًّا لاي جماعة إرهابية، أستطيع من خلالها نزع السابقة من الفيش.
ولذلك راسلت اثنين من أعضاء مجلس النواب لتقديم المقترح، ولا أعرف هل سيوافقون على عرض الفكرة في مجلس النواب أم لا. فأنا لست وحدي، فهناك آلاف الشباب مثلي الآن، وهناك الآلاف ينتظرون في قوائم الانتظار للخروج، وأعتقد أنه يكفينا سنوات القهر في السجن.
ولو على الخمس سنين من سجني، فأنا مسامح فيهم، لكن اتركوني أكمل حياتي.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست