حتى في عصر حسني مبارك ورغم كل الرفض والضيق من كل سلبيات حكمه، إلا أنني لا أتذكر أبدًا أن ضيقي وتبرمي ورفضي لحكمه كان بسبب أزمات مالية أو إحساس بالشح والعوز، أو حتى لشح مساحات الحرية وسطوة تلك القبضة الشيطانية البوليسية على رقاب الشعب، بل الذي طغى عندي على كل شيء كان ذلك الوضع المائع الذي لا طعم له ولا لون إلا طعم الخيانة ولون النذالة والضعة تجاه قضايا رئيسية أعتبرها صلب العقيدة التي أتشرف بحمل انتمائي لها، فلم تكن أبدًا قضية فلسطين تشكل لي مجرد تعاطف مع شعب آخر لا أنتمي إليه، وكذلك العراق، أو البوسنة والهرسك، كلها قضايا واحدة بالنسبة لي تخصني قبل أن تخص تلك الشعوب كلها كانت تحرك ذلك الألم والحسرة والخزي على ذلك الكبرياء المنكسر أمام موقف مصر العربية المسلمة إزاء هذه القضايا!
لكن الحقيقة ــ وكي نكون منصفين ــ أن زمن العسكر لم يتفرد كليًا بتلك الصفة المائعة التي تنتسب للإسلام رسميًا، لكن واقعيًا هناك رأي آخر، ولا عجب فكل أمور مصر هكذا تتعامل مع الورق والمستندات ولا تطابقها بالواقع! ولنعد لأزمنة ما قبل العسكر، وبالتحديد الأزمنة الحديثة التي اتسمت بدرجة عالية من الانجراف نحو الغرب والانبهار والوله بالأفكار والنظريات الليبرالية والعلمانية مما أسبغ على الواقع المصري وقتها طابعًا «إفرنجيًا» كعنوان «للتحضر» ومتهربًا بشكل صريح من صراحة منهج العقيدة الإسلامية التي ينتمي لها غالبية الشعب، رغم المظهر العام المتحفظ إلى حد ما والساعي لتأكيد إسلامية الدولة في المناسبات الدينية، فقد كان للاحتلالين الفرنسي والإنجليزي تأثيرهما القوي على الواقع بشكل عام، وللبعثات المصرية لأوروبا أثرها على المتعلمين والمثقفين بشكل خاص، بالإضافة لسقوط الخلافة العثمانية والتأثر بشخصية كمال أتاتورك، وما تبعها من دعاوى التغريب ونزع الحجاب وما شابهها من أحداث، ثم تبعتها موجة أخرى من التغيير إزاء هبوب رياح الاشتراكية اليسارية فطبعت المجتمع المتغرب أصلاً بطابعها لعقدين على الأقل من عمر هذا البلد وورثته هوية جديدة يدافع عنها أصحابها باعتبارها أنها الهوية «المصرية».
لذا حين نتحدث عن الاصطفاف الثوري أو الشعبي سواء في مرحلة الانقلاب وما بعدها أجد أن الأمر ليس بسهولة إطلاق المبادرات اليومية التي نسمع عنها؛ فالميراث جد ثقيل، ومعقد جدًا، ليس الميراث السياسي والاقتصادي فحسب، وإنما الميراث الثقافي والديني ومكون الهوية داخل إطار الوطن المصري، ولن أقول الهوية المصرية كما يحلو للبعض تسميتها، فرغم أن مصر ليست ككثير من بلدان المنطقة التي بها كم من الفسيفساء الطائفي والعرقي، إلا أن الاختلافات التي قد تعيق عملية الاصطفاف اختلافات جوهرية عميقة لا يصح أن نتجاهلها أو نقيس عليها الواقع الوردي لأيام ثورة يناير الثمانية عشر، فإن هي إلا أيام انقضت لتظهر تلك الخلافات واضحة جلية، ما تسبب فيما نحن فيه الآن، وما نحن عليه الآن أفرز عدد آخر من الخلافات الجذرية أو ربما أظهرها، فما كنا لا نصرح به في الماضي أصبح الآن محل جدال ونقاش وشجار، ولم لا وقد كشف الجميع أقنعته وجهر بمكنونات صدره، فعلى سبيل المثال عرضت قناة «مكملين» منذ أيام حلقة طرح فيها موضوع أثير أكثر من مرة بتحفظ أحيانًا وبوضوح أحيان أخرى عن توحش «دولة الكنيسة» داخل الدولة المصرية، وهو بالفعل أمر واقع مثبوت بالمستندات والأرقام، بل بتصريحات القيادات الكنسية ذاتها، وأكدته الأحداث الأخيرة لدير وادي الريان، لكني على يقين أن تناول أطراف الثورة المصرية لهذا الموضوع كمثال لن يتطابق ولن يلتقي في نقطة تصل بنا إلى حل واضح وصريح؛ فهناك من سيقول المواطنة، وهناك من سيخشى اتهامه بالأخونة، وهناك من سيتحدث عن دولة القانون، ولكن بعيدًا عن الأوقاف الإسلامية ووزارتها التي تختص بهذه القضية وهناك من سيحاول أن يجمع ولا يفرق مع «شركاء» الوطن خاصة وأنهم كانوا ركنًا أساسيًا في معادلة الانقلاب الذي دمر الوسيلة الوحيدة لإيجاد حل للتنازع بين الأطراف المختلفة، وهي الاحتكام لصوت الأغلبية، وحتى إن رحل الانقلاب وعدنا إلى الحياة السياسية والديمقراطية مرة أخرى فسيظل هناك سكين على رقبة الإخوان اسمه الاصطفاف يذكرهم بـ«أخطاء الماضي» ويمنعهم أو على الأقل يعيقهم من تكرار تجربة المغالبة وعلى هذا الأساس تظل كثير من القضايا بل الحقوق تتنازعها الرؤى المختلفة دون حسم، وأكاد أجزم أننا البلد الوحيد الذي يمارس الديمقراطية على طريقة «جبر الخواطر» هذا إن كان يمارسها أصلاً، وقس على ذلك كثيرًا من مناحي الحياة الاقتصادية منها والاجتماعية والفنية والثقافية .. إلخ، هذا مع شركاء الثورة، أما مع «الشعب الآخر» فحدث ولا حرج، فبعد أن صرنا نترحم على زمن حسني مبارك بكل فساده وطغيانه وعمالته لا أظن أننا نستطيع أن نلتقي في نقطة توافق مع مؤيدي هذا النظام «الانقلابي» الذي أجهز على مصر بالكامل، لأن النقطة الجوهرية التي نختلف فيها من حيث توجهاتنا تجبرنا على السير في اتجاهين متضادين، فشعب السيسي اكتفى بقوقعته التي أطلق عليها اسم أم الدنيا، راضيًا قانعًا بها، خائفـًا عليها، متحصنًا بها، لا تهمه أزمات أو مشاكل ما دام يوهم نفسه أنه في مأمن داخل تلك القوقعة التي يحميها العسكر، ومهما حدث سيظل متمسكـًا بحكم العسكر أو مشتقاته، حتى لو تقلصت تلك القوقعة شيئًا فشيئًا لتختصر في ذاته فقط، ولذلك سيصّعب من الأمر أن يعود هذا الشعب إلى «حزبه الكنباوي» متفرجًا مرة أخرى على هذا التنازع الفكري الأيديولوجي بين شركاء الثورة كما حدث من قبل إبان ثورة 25 يناير وحتى انقلاب الثالث من يوليو 2013، وبالتالي يظل للعسكر فرصة قوية للتواجد بين قسم من هذا الشعب له أهميته العددية والذي تشبع بأفكار تغلغلت في جوهر تكوينه عبر آلة إعلامية لا تكل ولا تمل في عمليات الشحن النفسي والتخدير المتواصل ولم يعد لديهم قضية واضحة سوى ما ستمليه عليهم هذه الآلة يوميًا؛ ولذلك من الصعب جدًا أن ينخرط مع أي من أطراف الثورة أو يصطف معهم هذا إذا حدث الاصطفاف أيضًا! بالإضافة إلى أن قضيتنا قد تشكل وعيها من جديد بحيث إنها لم تعد ترى الأمور كما كانت أيام ثورة يناير 2011، وفي رأيي الشخصي أنها تجاوزت شعار : عيش، حرية، عدالة اجتماعية، هذا على الأقل بالنسبة للجناح «الإسلامي» في هذه الثورة، وهذا ما يُعقّد فكرة الاصطفاف، فبعد كل هذا الكم من التضحيات في هذا الجناح تجاوزت فكرة الثورة هذه المرحلة، بل تجاوزت الثورة المصرية والتحمت مع ثورات عربية أخرى أهمها الثورة السورية وانطلقت منها إلى واقع عالمي ترى وجوب الثورة عليه هو أيضًا، هذا إلى جانب أن هناك أكثر من مدرسة في هذا الجناح «الإسلامي» قد تكون متوافقة في الرؤية لكنها تختلف في تنفيذها، وللأسف بينها انقسامات عديدة في توجهاتها نحو الحل، وإعادة ترتيب الوطن وبنائه، والمنطقة وفق منهج كل مدرسة.
في حين أن الأطراف الأخرى تكاد تكون قانعة بالحدود الإقليمية والقوميات والجنسيات الموروثة ولا تتطلع سوى لإصلاح ما أفسدته الأنظمة البائدة وإعادة تأهيل الدولة وفق المنظومة العالمية والنموذج الغربي كنموذج ناجح، فهل يصلح الاصطفاف ضمن كل تلك التنازعات والتضادات الفكرية والعقائدية المكونة لذلك الاصطفاف؟ وهل يمكن لكل الأطراف أن تذوب أو تمتزج في بوتقة واحدة؟ وهل يمكن أن يحدث ذلك الذوبان دون تقديم تنازلات من جميع الأطراف؟ وهل للتنازلات مكان في قضايا جوهرية أساسية في تكوين هوية كل طرف من أطراف المكون المصري نفسه؟ أم أن هناك طرفًا سيكون مطالبًا بسداد فاتورة الثورة كاملة؟ الله وحده أعلى وأعلم.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست
علامات
خلافات