في أحيان كثيرة يخشى من يقرأ المستقبل بواقعية، وينظر للأحداث بعمق، أن يعبر عن قراءته بوضوح تام، حينًا لأنه يحذر من زيادة الطين بلة، وحينًا آخر لأن ما يُرسخ في المجتمعات من خطابات وشعارات عاطفية تبتعد عن الموضوعية، تجعل الخطاب الواقعي أشبه بالمنبوذ من ذاك المجتمع، لكن التحديات والمخاطر التي تُنذر بالعراق، تجعل الوطني الواقعي أمام مسؤولية تاريخية، ليتحدث بصراحة أكبر.

عن التوازن

من يعرف عمق الواقع العراقي، لا يشك بأن العراق لا يمكن له الصمود دون انتهاج مبدأ التوزان؛ لأسباب عديدة تتعلق بوضعه وقوته وحجم التصارع عليه وفيه، وبالطبع فإن انتهاج التوازن في العراق ليس ضرورة في مساحة معينة، بل لعله ضرورة في كافة المساحات ومختلف التعاملات، تارةً في السياسات الخارجية، وأخرى في الداخلية، وفي السياسة الاقتصادية، بل حتى في التعاملات المجتمعية.

التوازن المكوناتي

حقيقة أن تعدد الانتماءات العقدية، والقومية، والدينية، متجذرة في سيكولوجية المواطن العراقي والمجتمع، وأن المجتمع مقسَّم لمكونات متعددة، ثلاثة منها كبيرة وأساسية، أيضًا لا يمكن إنكارها مهما اشتدت المحاولات وتعددت، لأنها لا تتعلق بعقائد وجذور تأريخية فحسب، بل ترتبط أيضًا بتوزيع جغرافي مقسَّم وفق هذا التنوع المكوناتي، ويرتبط معها تنوع في اللغة، واللهجة، والولاءات، وحتى أُطر التفكير.

في البدء، وللأسباب المتنوعة المتعلقة بالتنوع المكوناتي المذكورة آنفًا، يجدرُ التنويه إلى أن الحديث عن هذا التنوع لا يعني تمييزًا طائفيًا على أساس العقيدة، والأيديولوجيا المذهبية أو الدينية، بقدر ما يمثل حديثًا عن مكونات مجتمعية، وهو ما يجدر التمييز بينه وبين الحديث الطائفي أو التمييز القومي، والذي هو بلا شك أبعد ما يكون عن الكاتب ومنهجه وانتمائه، التي يمكن التأكد منها بمراجعة بسيطة للمواقف والكتابات.

ولأن حقيقة هذا التنوع غير قابلة للإنكار، لا يمكن أيضًا إنكار ضرورة التوازن بين هذه المكونات المجتمعية، وما يتعلق بها من تمثيل سياسي وتعامل حكومي وغيرها من المتعلقات، ولا حاجة لضرب الأمثلة للدلالة على ذلك، حيث يتذكر كل مطلع ما أدى إليه مجرد إدعاء تهميش المكونات، من «ثورة عشائر»، أو «استفتاءات استقلال»، أو غيرها، وهو ما يُثبت أن التوازن المكوناتي عنصر أساس لتحقيق استقرار داخلي لا يمكن تحقيقه بوسيلة أخرى؛ أمرٌ لا يُقبل النقاش بصحته.

أغلب القوى السياسية المتصدرة، لا تتمكن من إنكار تمثيلها لمكونات معينة، تارةً لواقع المساحات المجتمعية المصوتة لها، وتارةً أُخرى لأن بعضها لم يتمكن حتى اللحظة من مغادرة الحديث باسم مكون معين، حيث إن العديد من التحالفات تعلن صراحةً أن تصديها قائم على أساس خدمة مناطق ومجتمعات بعينها، فذاك لـ«مدنٍ محررة» وهذا «لأمة كوردية»، وآخر «للوسط والجنوب»، وذلك يجعلني أتصور أن هذه القوى أولى بتصديق العلاقة الطردية بين الاستقرار والتوازن المكوناتي، فلماذا يصرُّ بعضهم على خلخلته؟

عن مفهوم الأغلبية

بمراجعة بسيطة للمواقف السياسية، نجد أن أول القوى المتصدرة التي تبنت مفهوم «أغلبية» بعد 2003 كان ائتلاف دولة القانون تحت عنوان «الأغلبية السياسية»، رُفضت من معظم الأطراف؛ رفضها البعض لإيمانه – الذي يبدو أنه أصبح سابقًا – بمفهوم الشراكة والتوافق، ورفضها العقلانيون لأنها لا تشترط مراعاة التوازن المكوناتي فيها، حيث يمكن للمكون الشيعي، الذي يمكنه تحقيق الأغلبية العددية في البرلمان، أن يشكل الحكومة ويوزع المواقع بينه ويقود الدولة لوحده، وهو ما يعني تهميشًا للمكونات الأساسية الأُخرى وحرمانًا من الحقوق العُرفية المؤسسة.

ثم طرح السيد الحكيم – الذي رفض الأغلبية السياسية للسبب الأخير المذكور – مفهوم أغلبية أكثر إدراكًا للواقع وانسجامًا معه، أسماه بـ«الأغلبية الوطنية»، وشرطه الأساس مراعاة التوازن المكوناتي داخل هذه الأغلبية، بحسب نسب التمثيل الشعبي والبرلماني لكل مكون، بحيث لا تتشكل إلا وفي الموالاة تمثيلًا منسجمًا مع الواقع العددي والنسبي لكل مكون، ومثله في المعارضة أيضًا، وهو ما سعى إليه أثناء تشكيل حكومة 2018 بتأسيسه تحالف الإصلاح وما قابله من تحالف البناء، حتى هدَّم هذا المشروع السيد مقتدى الصدر بتخلفه عن اتفاق الإصلاح، وذهابه للاتفاق مع أطراف أخرى، وهو ما أدى إلى خراب هذه التحالفات العابرة المراعية للتوازنات، والاتجاه لحكومة توافقية تشاركية نتيجةً لخطوة السيد الصدر هذه التي «ارتضى بها للعراقيين حكومة السيد عادل عبد المهدي بعد أن أكمل لهم الصورة، وأتم اللمسات الأخيرة»، كما يعبر في تغريدته الشهيرة.

أيضًا، وبعد أن ذهب الحكيم لمعارضة الحكومة «المرضي عنها» وحده بلا شريك، جرت من قبله محاولات أخرى لإعادة ترسيخ مفهوم «الأغلبية الوطنية» الذي طرحه، ودعا لتشكيل تحالفات انتخابية أسماها بالعابرة للمكونات، وسعى مع أطراف عديدة لتشكيلها، إلا أنها رُفضت من قبل الجميع، بحجة عدم تمكنهم من مغادرة الحالة المكوناتية، وعدم تمكنهم من التحالف مع مكونات أخرى قبل الانتخابات؛ لأن ذلك يُخسرهم جمهورهم الذي كسبوه على أساس التمثيل المكوناتي، لا العابر؛ مما يُستغرب بشكل كبير أن أبرز الأطراف التي رفضت هذه التحالفات العابرة المؤسسة لأغلبية وطنية، هي ذات الأطراف التي تبنت بعد ذات الانتخابات تشكيل ما تدعي أنهُ «حكومة أغلبية وطنية».

عن أغلبية 2022

عاد السيد الصدر بعيد انتخابات 2021 لتبني ما يدعي أنه «أغلبية وطنية»، لكن وبما أن مُنظِّر المفهوم أولى بتبيانه، ولأن هذه الأغلبية قامت على أساس شرط مراعاة التوازن المكوناتي، ولأن الصدر لا يشترط ذلك بحسب ما يوضحه موقفه المُصرُّ على عدم تمثيل المكون الأكبر في أغلبيته تمثيلًا يناسب واقعه ونسبة وجوده المجتمعي والسياسي، يُمَكِّننا من القول بأن أغلبية الصدر هذه أقرب ما تكون لأغلبية المالكي التي شرحناها، فكلاهما لا يراعيان شرط التوازن محل الحديث.

مما لا يُمكن استيعابه في أغلبية 2022 – السياسية بادعائي، الوطنية بادعاء الصدر وحلفائه – أن هذه الأغلبية بقواها، تحثُّ جميع قوى المكونات بالمشاركة فيها بل تسعى لذلك، باستثناء قوى مكون واحد، بل تصر على إقصائها، مع أن هذا المكون يُعدُّ مكونًا أكبرًا في الواقع العراقي، ويمثل ما يزيد عن النصف في الواقع المجتمعي والبرلماني، وهو ما يجب أن يمثل ذات النسبة من كل معادلة تتشكل، بحسب أساسات التوازن المعني.

من جهة أخرى، في رأسي تساؤلات راودتني كلما فكرت بأغلبية 2022، كيف كان تاريخ القوى الثلاث الأساسية وخِطابها ومتبناها طِوال فترة التصدي الديمقراطي؟ هل كان مشهودًا له بالوطنية والحرص العراقي بمختلف تنوعاته، أم شُهد له بالتحريض المذهبي والقومي والمشاركة في الاقتتالات الطائفية والحروب الأهلية؟ هل فيهم طرفًا واحدًا اتسم بالسعي الحثيث لعبور المكوناتية والإيمان بمفهوم الأمة العراقية؟ طيب.. إن لم يكن فيهم مثل هذا الطرف، فكيف سيكون شكل المشهد باختلاف هذه الأطراف فيما بينها، وهو أمر وارد الحدوث في العمل السياسي؟ ومن سيُذكر بمتبنيات «الأمة العراقية والوطنية وعبور المكوناتية» إن لم تكن هذه المفاهيم متجذرة ومترسخة في إحدى هذه الأطراف؟

سؤالٌ ثقيل آخر.. مع إهمال مؤشرات التزوير، ولد القانون الإنتخابي الجديد شكلًا مختلفًا من التمثيل السياسي عن السابق، فالكتلة الأكبر انتخابيًا من حيث المقاعد الپرلمانية، لا تمثل ثلث عدد أصوات التنسيقات التي تقابلها والتي تقل عنها في عدد المقاعد في ذات الانتخابات، فهل فكرنا كيف سنتعامل مع مشكلة تهميش صاحب الأصوات والتأييد الشعبي الأكبر الأقل مقاعدًا لصالح الأقل من حيث التأييد الشعبي الأكبر من حيث المقاعد؟

ماذا عن السلاح.. هل نسيناه؟

السؤال الأهم الذي لم أتمكن من الإجابة عنه بشكل إيجابي، هو كيف سيكون شكل المشهد في حالة تصدي صاحب سلاح لتشكيل الحكومة ومعارضة صاحب سلاحٍ آخر، فبصراحة لا ينكر سماحة السيد الصدر امتلاكه للسلاح، والقوى المسلحة، وصلاحية أمره، وسلطته الرمزية عليها، كما لا تنكر أيضًا فصائل المقاومة ذلك! فماذا سيحدث إذا اشتد الخلاف السياسي بين الموالاة والمعارضة في هذه الحالة، مع أن السؤال الأهم كانَ يجدر توجيهه للشعب الذي أعطى لأصحاب السلاح، شرعية التمثيل السياسي الكبير بمثل هذا الشكل، وفرض علينا واقعًا نطرح فيه مثل هذه الأسئلة، وفرض على العراق واقعه المسلح.

التوازن الدولي

بالضبط يتشابه تأثير التوازن الدولي ومسألة العلاقات الخارجية مع تأثير التوازن المكوناتي، فلا يستدعي الحديث الموسع عنه كما جرى في الذي قبله، وأمثلة الدلالة على التأثير كبيرة أيضًا، منها سقوط ثلث العراق بيد داعش، وأحداث 2019، وأيام الأسبوع الدامية جميعها، وسقوط الحكومات، وتغيير الأنظمة، وغيرها. التي يعرف المحللون والمطلعون أسبابها الواقعية جيدًا.

بالتأكيد لا صحة لكون أن المشهد السياسي في العراق بُعيد الانتخابات الأخيرة أو حتى بها، خالٍ من التأثيرات الدولية أو الإقليمية، فالتأثير لدول معينة واضحة عند من يراقب المشهد، حتى أصبح البعض يرى أن سير الأمور داخل العراق مستقبلًا، ترسمه الآن محادثات في «ڤيينا» بتفاوض ليس أي طرف عراقي جزء منه، وفي هذه المسألة أتقصد عدم الحديث بذات الصراحة السابقة لأسباب عديدة.

لا تخفي بعضُ الأطراف بتلميحاتها، عداءها لطرف خارجي معين أو تحسسها منه على الأقل، بتغاضٍ أو على حساب طرف آخر، وهو ما يتطلب وقفة تساؤلية أيضًا، فماذا سيحدث إذا ما كانت الحكومة المقبلة تتعمد في علاقاتها الخارجية عداء ذلك الطرف؟ أو أن تفضل مصالح الطرف الآخر على حساب الطرف العدوّ؟ أو أن تفرض على العراق إلتحاقه بمحور خارجي معين ضد آخر؟ هل ستكون السيناريوهات مشابهة لنتائج خلخلة التوازن الخارجي السابقة على أقل تقدير، أم ستكون أشد وأقسى على العراق هذه المرة؟

ختام توضيحي

شخصيًا أعتقدُ أن النجاح التنفيذي في العراق، لا يمكنه التحقق إلا بتحقق مفهوم الأغلبية، لكن الاستقرار لا يمكنه أن يتحقق إلا بمراعاة التوازنات؛ والعلاقة بين النجاح والاستقرار طردية، لا يمكن للأول تحققه بلا تحقق الثاني، وهو ما يستدعي أغلبية وطنية بشرطها وشروطها، مدركةً للواقع، متعمقة فيه، فشرطُ العمل السياسي الصحيح، الواقعية، ودون ذلك إما جهلٌ أو تخريب. وقبل كل ذلك نحن بحاجة إلى ترسيخ مفهوم «إدارة التنوع» والسعي لجعله أساسٌ في العمل والتعامل بكافة المفاصل، معقود بعقد اجتماعي، تتبانى عليه جميع المكونات والأطراف، وإلا فلا سلام، والسلام.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

تحميل المزيد