فُطِرَ الإنسان على الفضول المعرفي، ولعل هذه الفطرة تتجلى بنقائها عند الأطفال عندما يرون كل زاهٍ من اللون فيلفت انتباههم، و يسمعون كل بديع من صوت فيثير إعجابهم، ثم إذا نضج إدراكهم، تغلب عليهم عفويتهم و براءتهم فيبدؤون التساؤل عن المسلمات الاجتماعية والدينية، و لأن «هناك أشياء كثيرة تفوق حلم فلسفتك»، فيتحتم علينا في غالب الأحيان أن نكتفي بالعودة إلى فطرتنا، ونرجع إلى أطفالنا، لنعي كم من شرخٍ أصاب وتمكن من الجنس البشري بسبب وهم المعرفة ورذيلة الأخذ بالمسلمات على أنها حقائٍق لا تحتمل الخطأ، ولعل من أعمق هذه الشروخ هو وهم الفروق والاختلافات الجندرية بين الجنسين، التي وضعت تحت قسم الحقائق البيولوجية والدينية المحرم تغييرها.

في الحلقة الثالثة عشر من مسلسل «خلي بالك من زيزي»، كانت الأم تصفف شعر طفلتها، عندما سألتها الأخيرة عن سبب حلق الرجال لشعرهم وامتناع النساء عن ذلك، استعصت على نفسي الإجابة كمشاهد، واستعصت على الأم كذلك قبل أن تتمكن من إنقاذ نفسها من الوقوع في شقاء الشك والتساؤل بقول:«هُوَّ كِدَه».

حوار قصير كهذا من المحتمل ألا يستوقف ذهن المشاهد، لعدم أهمية أو محورية فرق الطول بين شعر الرجل والمرأة، اعتدنا أن نأخذ الأمر من المسلمات، كالعديد من الأمور الأخرى، ولكن سؤال الطفلة وإجابة والدتها يحملان أبعادًا اجتماعية عميقة، ففطرة الأطفال وتساؤلاتهم العفوية كفيلة بإيضاح معالم الأبعاد الاجتماعية في تشكيل الصورة النمطية للجنسين، وإيضاح اللاوعي الإدراكي الذي ساهم في تجذر الفكر الجندري في المجتمع. قالت الأم: هو كده، وهو فعلًا كده؛ ليس لأننا فطرنا على كده، ولكن لأن المجتمع فرض علينا أن نكون كده، وكم اعتدنا على قول «هو كده».

عقود طويلة مرت منذ أن قالت سيمون دي بيفوار:«الأنثى تُولد إنسانًا ثم تصنع امرأة»، بدأت ملامح الحركات النسوية حينها تتشكل في مختلف القطاعات الاجتماعية والأقسام الأكاديمية لتسليط الضوء على المرأة قضيةً اجتماعية، وعلى «الجندرية Gender»، المصطلح الذي أطلقته Ann Okeley في علم الاجتماع، الذي لا يشير إلى الجنس البيولوجي للإنسان كما تم إساءة استعماله في النطاق الاجتماعي، بل يهدف إلى دراسة المنظومات العدة والبنى الراسخة التي ساهمت في تكوين الصورة النمطية للمرأة وللرجل في المجتمع، بوضعهم بقالب اجتماعي سطحي يحدد سلوكياتهم، قالب يتمثل بالنظر إلى المرأة كائنًا ضعيفًا و حساسًا، ناقص عقل ودين، لا يقدر على مجابهة الحياة مما يستوجب نقل تبعيته إلى الأقدر والأحكم؛ ألا وهو الرجل، على الرغم من غياب الدليل البيولوجي الذي يخدم ما سبق، وغياب الدليل الاقتصادي الذي يشفع تحديد دور المرأة في نطاق الرعاية والمعونة فقط.

تلك الصورة النمطية بدورها أخضعت المرأة لسلطة الرجل لقرون عدة، وضمنت أن تبقى المرأة في هذا الموقع الخاضع عن طريق إعادة إنتاج ونشر الأفكار الذكورية فكريًّا ولغويًّا أيضًا، حتى بدا لنا أن الفروقات بين الجنسين ماهي إلا محض حقيقة بيولوجية، وبدأنا نتناول الأمر من باب التسليم حتى طغى الفكر الجندري الذي يعزز ظلم المرأة، والرجل في بعض الأحيان، في الأحاديث، والآداب، وحتى الأغاني، بشكل إدراكي ولا إدراكي في كثير من الأحيان.

أغنية «رفقًا» لأصالة نصري، كانت مثالًا لدور اللغة في تأسيس واستمرار الجندرية النمطية في المجتمع، تقول فيها أصالة في إشارة إلى النساء:«فقد خلقنا بضعفهن وزادهن الله حياء»، وفي شطر آخر تقول:«هن المعونة في الرجال»، نالت الأغنية نجاحًا ليس بهين، واستقبلها معظم الجمهور بصدر رحب كدعوة للرفق بالنساء، وربما كانت النية من العمل حسنة كذلك، ولكنها نقلت معاني نمطية جندرية في طياتها، مدى خطورتها يكمن في تجذير الفكر الجندري بنعت المرأة بالضعف الفطري، وبإلحاقها بالرجل ووضعها في إطار تقديم المعونة والرعاية فقط؛ لعل الجمال اللحني والآدائي وقف مانعًا لإدراك المستمع لجندرية المعنى، أم أننا اعتدنا على القول بهذا، فأصبح الأمر من المسلمات، وأنا شخصيًّا أميل للرأي الثاني.

تعابير لغوية كهذه أصبحت تمتلكنا كما نمتلكها، فاللغة بالمجمل هي خلفية المجتمع الثقافية ومرآته، ومن إعجازها أنها تستعملنا كما نستعملها، وربما تستعملنا هي أكثر، كما قالت عالمة اللغويات روبين لوكوف، واستعمال كهذا للغة يدل على عدم اعترافنا بالمرأة كيانًا مستقلًّا، فالصورة النمطية الجندرية للمرأة في اللغة تنعكس في موضعين: الطريقة التي نتحدث بها عن المرأة أولًا، والمعايير المفروضة على حديث المرأة ثانيًا، ولعل نهجنا في فرض المعايير على طريقة حديث النساء تبدأ منذ صغرهن؛ إذ يبدأ الأمر في إلزام الصغيرات، سواءً في المدرسة أم من الأسرة، بالتحدث بأدب ونعومة تعكس أنوثتهم، وإلزامهم بكلمات وتعابير معينة، ومنعهن من استعمال كلمات أخرى يفسرها المجتمع على أنها كلمات خشنة رجولية، فإذا حدث وارتفع صوتها، او انزلق لسانها ونطقت بكلمة خارج إطار الأنوثة الذي يعتقده المجتمع، كانت إما عرضة للتنمر والسخرية منها على أنها «رجولية خشنة»، أو عرضة للتوبيخ.

جدير بالذكر أنها سواء أطاعت المجتمع أم تمردت فسوف يطالها الظلم في الحالتين، ففي الحالة الأخيرة ستتعرض للنبذ من المجتمع باعتبارها شاذة عن العادات والتقاليد، أما في حالة رضوخها للمعايير الجندرية فستساهم في هدم استقلاليتها، مما يترتب عليه تبعيتها للرجل، لأنها دائمًا ما كانت توضع تحت إطار من الضعف والهوان والعاطفة عند الحديث عنها، وكثيرًا ما يشار إليها في نطاق الأسرة ومعونة الرجال على اعتبار اقتصار وظيفتها الاجتماعية على ذلك، والأشد سوءًا من ذلك أن يتم الإشارة إليها كأداة لإرضاء الرغبات الجنسية عند الرجل، بالإضافة لذلك، فإن كثير من التعابير اللغوية الثنائية، كالقوة والضعف والحكمة والسذاجة، والرزانة والعاطفية، تستخدم غالبًا في الإطار الاجتماعي لخدمة الذكورية على حساب المرأة.

ساهمت تلك التعابير اللغوية في وضع معايير ذكورية ظالمة لتحديد سلوكيات المرأة في المجتمع، ولعل ظاهرة التحرش وتعذر المتحرشين بلباس المرأة لتبرير تحرشهم من أهم معالم التفكير الجندري، الذي يتم تعزيزه لغويًّا في شتى القطاعات.

نحن ننعت المرأة بالفتنة الجنسية وندعو لحشمتها ونقذف غير المحتشمات منهن بالتبرج والفسق، فترتكز الفكرة في عقول الشباب والأطفال ، ويترتب على ذلك رؤيتها بقالب جنسي بحت ونفي صفة الاستقلالية عنها، مما يعني لجوء الأسر لإلزام المرأة بلبس المحتشم، والحشمة هنا نسبية، من الممكن ان تشير إلى اللبس الفضفاض المغطى عند البعض، أو أن تذهب إلى أبعد من ذلك فلا تكون إلا بتغطية الرأس والوجه، أو تكون بتغطية الكفوف والأعين وحتى كتمان الصوت عند البعض القليل، بشتى الأحوال، ما سبق سيتيح للأنفس تأويل لباس المرأة وتصرفاتها كما تشتهي، وستُبنى الأفعال على تلك التأويلات، فيعتقد الشخص منا أن المرأة يجب أن تكون محتشمة وتلتزم بسلوك محدد، وإن لم تكن كذلك، استباح اختراق خصوصيتها والإساءة لها لفظيًّا وجسديًّا. فإن لجأت للدفاع عن نفسها برد الإساءة بمثلها، يثور المتحرش ثائرة ثورٍ لمح احمرار لون، فيطغى، يعترض طريقها، ويؤذيها جسديًّا، كيف لا وقد عاش حياته مؤمنًا بسيادة رجولته، ومصدقًا لهوان المرأة، بسبب عبارات تقال بشكل شبه دائم في المنازل والمدارس، وعلى المنابر الإعلامية والدينية، وفي الكتب المدرسية والأدبية.

رُبَّ كَلِمَةٍ ولدت شعور من عدم الأمان عند أنثى، فلا تجابه خشية التعرض للأذى، ولا تشتكي خشية اللوم والعتاب، وإن حدث ولجأت لمركز شرطة، عُوِمِلَت كما يُعَامَل السفيه غير الجاد، وأُلْزِمَت بالتنازل، لا يُعاقَب الفاعل المذنب المحاط في هالة من وهم القوة والقوامة، وتعاقَب البريئة ألف مرة، إما نفسيًّا، أو جسديًّا، ويصل الأمر أحيانًا إلى أن تدفع حياتها ثمنًا لذنب لم تقترفه، كما حدث مع فرح أكبر في الكويت، استُبيحَت خصوصيتها، وعندما قاوَمَت، ضُرِبَت وخُطِفَت، ثم طُعِنَت وتُرِكَت ملقاةً على الأرض تغرق بدمائها.

جريمة تجمع في طياتها كل داكن في الحياة، أفدح ما يمكن أن يصل إليه الظلم الاجتماعي، ما حدث ليس إلا ثمرةً لشجرة جذورها أصابت باطن المجتمع، طُعِنَت فرح أكبر، بسكين من الذكورية القاتلة، وطُعِنَت قبلها كثيرات، ليس لشيء، ولكن لأنه «هُوَ كِدَه».

لن تُنصف المرأة، ما زلنا نقول «هو كده».

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد