أصدر السيسي قرارًا جمهوريًا بإعفاء المستشار «هشام جنينة» رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات من منصبه، وتكليف نائبه المستشار هشام بدوي، بمباشرة اختصاصاته لحين تعيين رئيس جديد، واقعة إعفاء المستشار هشام جنينة من منصبه هي الأولى من نوعها منذ تأسيس الجهاز المركزي للمحاسبات في عام 1964.
وعزل جنينة جاء بعد صراع مكتوم استمر لأكثر من عامين بين ما يسمى (بالجهات السيادية) والجهاز المركزى للمحاسبات، ثم ما لبس أن ظهر هذا الصراع بوضوح، بعد أن تصاعدت حدة الخلاف مع جنينة عقب إعلانه، في مايو 2015، عن حجم الفساد في بعض مؤسسات الدولة، وقال: «إن عدد الصناديق الخاصة بوزارة الداخلية بلغ نحو 38 صندوقًا بقيمة 12 مليار جنيه، إضافة إلى وجود مخالفات بقيمة 23.5 مليار جنيه بينها 2.5 مليار بجهاز أمن الدولة، وأثارت تلك التصريحات رواجًا كبيرًا على الصعيد الدولى والمحلى ومواقع التواصل الاجتماعى.
ومن العجيب فى هذا الأمر أن يصدر السيسي قرارًا بتشكيل لجنة تقصي حقائق؛ لتبحث تلك التقارير، وليس من العجيب أن تصدر هذه اللجنة تصريحات تؤكد كذب المستشار هشام جنينة والمبالغة في التقارير التي أعدها الجهاز المركزى للمحاسبات .
موت القانون
أصدر السيسي في يوليو الماضي قرارًا بقانون؛ يحدد فيه الحالات التي يجوز فيها لرئيس الجمهورية إعفاء رؤساء وأعضاء الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية من مناصبهم، وهي إذا قامت بشأنه دلائل جدية على ما يمس أمن الدولة وسلامتها، إذا فقد الثقة والاعتبار، وإذا أخل بواجبات وظيفته بما من شأنه الإضرار بالمصالح العليا للبلاد أو أحد الأشخاص الاعتبارية العامة، وإذا فقد أحد شروط الصلاحية للمنصب الذى يشغله لغير الأسباب الصحية.
وفضلًا عن عدم منطقية فحوى القانون المزعوم الذى يقضى باختصاص عضو سلطة تنفيذية بعزل رئيس أكبر جهاز رقابى في الدولة، فإن القرار بقانون الذي أصدره السيسي غير دستوري، وقد حرصت الدساتير المصرية المتعاقبة على استقلال الجهاز المركزي للمحاسبات وتحصين رئيسه من العزل؛ فقد نصت المادة 200 من دستور 2012 ، على أن «يتمتع الجهاز بالحياد والاستقلال الفني والمالي والإداري»، ونصت المادة 205 من دستور 2012 «يتولى الجهاز المركزى للمحاسبات الرقابه على أموال الدولة، والجهات الأخرى التى يحددها القانون». والتي من شأنها إحكام رقابة الجهاز على كل ما تمتلكه الدولة من أموال تخضع لرقابة الجهاز، وهذا هو الهدف الأصيل لإنشاء الجهاز منذ عام 1942 .
وفي دستور 2013 أجهز واضعوه على بعض ضمانات استقلال الجهاز، وزرعوا مبررات مطاطة تتيح للسلطة التنفيذية النيل من استقلال الجهاز، ومع ذلك فإن هذا الدستور وفر بعض الضمانات؛ فجاء نص المادة 216 على أن «يصدر بتشكيل كل هيئة مستقلة أو جهاز رقابى قانون يحدد اختصاصاتها ونظام عملها وضمانات استقلالها والحماية اللازمة لأعضائها، وسائر أوضاعهم الوظيفية، بما يكفل لهم الحياد والاستقلال. ويعين رئيس الجمهورية رؤساء تلك الهيئات والأجهزة، بعد موافقة مجلس النواب بأغلبية أعضائه لمدة 4 سنوات قابلة للتجديد لمرة واحدة، ولا يُعفا أي منهم من منصبه، إلا فى الحالات المحددة بالقانون، ويُحظر عليهم ما يُحظر على الوزراء».
وبالتالى فإن النص السابق يجعل القانون الذي أصدره السيسى غير دستوري على الإطلاق؛ لأنه أعطى لرئيس السطلة التنفيذية سلطات لم يمنحها له الدستور، وإذا افترضنا جدلًا، وهذا غير صحيح بأن القرار بقانون الذي أصدره السيسي، ووافق علية البرلمان دستوريًا، فإن قانون الجهاز المركزي للمحاسبات ينص في المادة ٢٥ منه «على عدم قابلية رئيس الجهاز للعزل».
وهناك قاعدة قانونية بديهية تقول: «إن النص الخاص يقيد النص العام، وبالتالى فإن نص القرار بقانون الذي أصدره السيسى لن يطبق؛ لأنه قيد بنص المادة 25 من قانون الجهاز المركزي للمحاسبات، وبذلك يبدو جليًا أن السلطة الحاكمة تلعب بنصوص القانون، وتقتل عموميته وتجريده، وأخيرًا فإنها قد استخرجت شهادة موت القانون واندثاره إلى حين زوالها، وستشهد الفترة القادمة الكثير من الضرب فى الجسد الميت «القانون» ولا يبدو منطقيا أيضًا أن نطالبها باحترام القانون مثلًا؛ لأنه قد مات، ولكن نطالبها فقط باحترام العقل والمنطق فى ممارستها للاستبداد؛ حتى نستطيع أن نتعامل معها بمنطق مشابه، ونطلب منها أن تسمح بتوفير الحد الأدنى من احترام حقوق الإنسان التي نؤمن دائما بأنها تنتزع ولا تكتسب من سلطة حاكمة لا تعرف معناها ولا وترى لها قيمه .
حرية الفساد
ولا يساورني شك في أن تيار الفساد سيكتسح الأخضر واليابس في هذا الوطن، وخاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار أن عزل جنينة هو رسالة لجميع الأجهزة الرقابية الأخرى، التي لن تستطيع الاقتراب من «عش الدبابير» مرة أخرى، بعد أن وضح لها أن هناك خطوط فوق حمراء لا يمكن الاقتراب منها أو الحديث عنها، وإذا كان ذلك ليس متوقعًا في الفترة الحالية، وخاصة أن البرلمان صاحب المهمة الرقابية الأصيله قد شارك الكثير من أعضائه في عملية الفساد العملاقة التى شهدتها الانتخابات البرلمانية الأخيرة.
ولاشك أن الاقتصاد المصرى سيتأثر كثيرًا بهذا الحدث الجليل، وخاصة أن قيمة فاتورة الفساد التي أعلن جنينة عنها في مصر حسب تقدير الجهاز بـ٦٠٠ مليار جنيه، أي: نحو ثلث الناتج المحلي الإجمالي، وإذا ما أضفنا إلى ذلك، القرارات بقوانين التي ساهمت إلى حد كبير في شرعنة وتقنين الفساد نجد أن تكلفة الفساد ستفوق هذه الأرقام بمراحل كثيرة، وتلك الفاتورة لن يتحمل تكلفتها، سوى المواطن الفقير، الذي ما لبست السلطة الحاكمة أن تنهش من قوت يومه، وتحمله فاتورة فشلها وفسادها.
وها هو هشام جنينة قد عزل من منصبه بطريقة غير مشرفة لمنصبه، ولكنها مشرفة لشخصه الذي رفض أن يقع تحت لواء السلطان ويرضخ لسلطاته، وبذلك تكون مصر قد خسرت محاربًا شجاعًا واجه الفساد بجدارة، وحافظ على الجزء الذي اؤتمن عليه من هذا الوطن.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست