«قضيتنا شريفة، إنها قضية الإنسانية» مقولة لجورج واشنطن في زمن تمكنت فيه الملكية من رؤوس العباد، وتلبست رداء الأديان، وادعت تمثيلها لرب الأديان، فأصبحت الأبدان والأرواح مُسخرّة لخدمة شخص واحد يَدعي أنه الوطن وبدونه لا وطن، وترسخت هذه الفكرة في أذهان ذاك الزمان، إلى أن أتى جورج واشنطن، وقلب الطاولة على رأس ذاك الشخص. وبدأ يُذكر الإنسان بقضيته، فأصبح أبا للوطن الجديد.
المتأمل في سيرة هذا الرجل ذي الأصل الإنجليزي الأبيض، مع هيئة أشبه بهيئة نبلاء إنجلترا، يجد أن هناك في قضيته تشابهًا مع قضية الإسلام، هذا التشابه يتقابل في مواطن كثيرة، بل يكاد يتطابق أحيانًا ليندهش المتأمل أكان هذا الرجل على دراية بمقاصد الإسلام!
وبالنظر إلى دعوة الإسلام، نجد أن الإسلام بُثَّ بين العباد جميعًا لِيتمم مكارم أخلاقهم ويطور من علاقة الإنسان بالإنسان، وَيَنتشلها من مستنقع السيد والعبد إلى واحة السيد والسيد، قد يكون هذا ما أدركه جورج واشنطن هذا العقل الرائع صافي النية المخلص لقضيته، فكان على رأس قضيته الإنسان وتحريره من العبودية أيا كانت هيئتها.
لم يحصل هذا الفتى على قدر كبير من التعلم والمعرفة، فأبوه ورث عن جده الإنجليزي المهاجر أراض في ولاية فرجنيا تزيد مساحتها عن ستة آلاف فدان، وكان جورج واشنطن من الزواج الثاني لأبيه القبطان البحري الذي وَرَّث أملاكه لأخويه غير الشقيقين، بدت حياته صعبة، فتعلم الحساب بذاتيته، وأشرف على إدارة مزارع إخوته، لكن اللافت للنظر، ولربما العامل الرئيسي الذي ساعد جورج واشنطن في قضيته هي تعلمه لرسم الخرائط، ومسح المناطق الشاسعة من الأراضي الزراعية فأثبت مهارة ملفتة، وأصبح المسؤول الأول عن المساحة في المقاطعه، ويبدو أن الغيب كان يُعدُه ليكون المسؤول الأول عن رسم خرائط العالم الجديد.
انتقل جورج واشنطن إلى الحياة العسكرية، مصطحبا معه فن رسم الخرائط، فلم يكن عسكري النشأة مجبرا على أخذ الأمر دونما تفكير، بل كان عسكريا ذا تخطيط استراتيجي كبير يتحسس خطواته، ويرسم نتائجها على خرائطه ثم يطبقها بروية وحنكة عالية، استخدم المستعمر الفرنسي لمعاونته على المستعمر الإنكليزي، هذا المستعمر الإنكليزي الذي يفهم لعبة الشيطان ويطبقها بين الأعراق المختلفة ليخسر الجميع ويربح هو وحيدا بأدنى خسارة، إلا أن هذه اللعبة أدارها بحنكة هادئة حتى أجبر الإنجليز قسرا على الاعتراف باستقلالية العالم الجديد، الهارب من سلطة الملكية على المجتمع والسلطة الدينية المساندة للملكية، لممارسة الحرية دون عوائق.
لم تكن الرغبة في الاستقلال نتاج عن طموح الأمة الأمريكية للحرية من الاستعباد الإنجليزي ،وقد يكون هنا بداية الاختلاف بين الثورة الإسلامية الدينية ونظيرتها الأمريكية اللادينية، هذ الاختلاف ناتج عن منبع كليهما، فالثورة الإسلامية حدث ذو سبب روحي قبل أن يكون له توابعه المادية، فالإسلام لم تكن دعوته في البداية أن يتساوى الناس في الحقوق، بل إنها نتاج لدعوته، التي طالبت العباد بأن يعبدوا ربا واحدا هو المصدر الوحيد لتنسيق العلاقة الروحية والاجتماعية فيما بينهم، بينما دعوة الثورة الأمريكية كان محركها الأساسي جباية الملك الإنجليزي جورج لثالث بفرضه ضرائب على منتجات السكر والشاي، وفرض ضريبة الدمغة على كل شيء من الوثائق القانونية إلى الصحف، وإقرار الأمر من قبل المجلس النيابي الإنجليزي دون استشارة الإنجليزي المستعمر، لم يتقبل الإنجليزي الهارب من بطش السلطة الدينية المتمثلة في سلطة الملك ذلك، ورُفعت لافتات سرت بين الولايات اللا متحدة آنذاك أن «لا ضرائب بدون تمثيل نيابي في كل المستعمرات» ولم تكن الدعوة حينها الثورة والانفصال، بل المشاركة مع الوطن الأم.
استجاب جورج الثالث وألغيت الضريبة، لكن رئيس وزرائه ارتكب خطأ فادحا، بأن أغضب بوسطن معقل الفتن التي سعت للانفصال عن الدولة الأم، بأن قام باحتكار تجارة الشاي لشركة الهند الشرقية المملوكة للدولة الإنجليزية في أمريكا. فثار الناس وأنشؤوا حزب الشاي، وأغلق الميناء ورُميت البضائع الإنجليزية في البحر، فأرسل الملك جورج الثالث، أعدادًا من الجنود لفرض النظام الجبري وإعادة الوضع كما كان عليه، لكن معظم الولايات الأخرى استاءت من الوضع وعقدوا مؤتمر الكونجرس، لمناقشة آلية الرد على الدولة الأم، وأعلن المؤتمر «نداء الحقوق والمظالم»، فسرعان مارد عليهم جورج الثالث بأن الأمريكيين متمردين، وفي عام 1776 م أصدر الكونجرس إعلان الاستقلال الشهير.
هذا الإعلان كان ينص على أن «كل الناس خلقوا سواسية وأنهم خلقوا ولهم حقوق معينة، ليس بمقدور أي حكومة أن تنتزع تلك الحقوق، وكان واجب الحكومة حماية تلك الحقوق، فإذا فشلت كان من حق الشعب تغيرها أو إقالتها».
هنا بدأ تلاقي اللجنة التي تأسست لوضع أول وثيقة مع مبادئ الإسلام، والتي دافع عنها جورج واشنطن حتى مماته.
يتبع..
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست