إن الدين الإسلامي لم يوضَع بشكل مجرد من النسبيات، يستحيل هذا، كما أنّه لو لم يكن له تشريعات تتغير، وأساليب يجب دراستها وتكييفها على حسب ما نعيش، لما كانت فيه مراتب مثل العامة والعلماء والمجددين والمفكرين وما إلى ذلك، ولم يكن في ثقافتنا احترام أهل العلم واللجوء إليهم، إلا لأنّ هناك أشياء ربما لا توجد في القرآن ببصيرتنا نحن، نحن الذين ينعتوننا بالعَوَام، ويجب بذلك أن نلجأ إلى أناس لديهم القدرة على رسم التوازي بين الحاضر والإسلام الذي أتى منذ 14 قرنًا، ويرون في القرآن غير الحروف التي نراها ونقرأها.
لكن ما حصل أن تجديد الخطاب، والبحث الحيادي، وترسيخ روح الدراسة، وتجريدها من العاطفة حال دون توضيح الكثير من الأشياء، التي ينبغي لها أن تُستخرج كما يُستخرج البترول من الأرض الصحراء، ولو كانت هي الأخرى كذلك عبر مراحل عدة!
فالأمر ليس بهين، والدين إذا لم يُسقَ بالتجديد والمجددين سيموت بموت تلك الحالات التي فقط وضعناه فيها، وأبقيناهُ عليها، مثل الذُّبابة والمرحاض، والساعة باليد اليمنى أو اليسرى، أنا لا أنكر هذه الأشياء أو المبادئ الظاهرية الأخلاقية للرجل المسلم، ولكن نحن أحوج ما يكون للمبادئ الفكرية، والدراسات الفلسفية، والتعمق أكثر في المسائل لبسطها قبل أن يأتي آخرون يبسطونها في دينهم وطوائفهم، فنرتاح في سُجَّادهم ونصلي صلاتهم.
لا شك وأن الأحمدية مثلًا، ربما درَسَت أمورًا لحد الآن لم يتوغل فيها عالمُ دين سُنّي، أو ربما تحايل بطريقة أو بأخرى في شَرحها وتَغَيّبَ عن الكثير في تفاصيلها، ووجَدَت طوائفٌ بذلك مثل الأحمدية حلولًا لها رآها بعضُ الناس أكثر إقناعًا فانضموا إليها، يستحيلُ أنَّ هناك من يرمي نفسه في النار، ولكن هناك من تقنعه الفكرة لأنها تتجلى أكثر من سابقتها التقليدية التي لم ترع اهتمامًا وتجديدًا، والتي كان يعتقدُ بها ويبني عليها.
نحن في الإسلام المعاصر اليوم، لا نحتاج الخُطَبَ المنبرية، التي تهول من المعاصي وتخوفُ منها، لكننا أحوج إلى الترغيب في الطاعات والأخلاق الفضيلة والدعوة إليها، فلقد ضاق المسلمون من الترهيب، هو محيط بهم في كل مكان، نحن نحتاج إلى خُطَب علمية، وفكرية فلسفية، وتفاؤلية، تدرُس الأحداث بعلم وفكر واعٍ، لا بعواطف عشوائية وحمية زائدة بدون قاعدة فكرية سليمة ومتينة.
إنه وفي يوم الجمعة مثلًًا يذهب الجميع إلى صلاة الجمعة، يستمعون إلى الخطبتين قبلها، لكن لا أثر للخطب المنبرية في نفوس الناس أبدًا، مع أنها بدأت مع بداية إشراق الإسلام علينا، لا أثر لها كونها دائمًا ما تكون بمبدأ اتقوا الله إنه شديد العقاب، وهو سريع الحساب، وينسون كلمات مثل: وليتفكروا، ولا تهنوا ولا تحزنوا، لا أنسى «أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ»، التي يقيدونها مع أنها أتت بريئة إلينا، بل ويخوفونا منها كثيرًا حتى أنها لم تقرأ إلا نادرًا في صلواتنا.
نحن مثلًا دائمًا ما نعتقد أن البحث الدقيق عن الأشياء يجعلنا نتيه، وأنَّ الفيلسوف مجنون، وأن الخوض حول بعض المسائل الدينية لا يعتبر علمًا بل يُعتبر هو فتنة أصلًا، فنجلس إلى فتنة العقل، وهي الفتنة العُظمى، سبحان الله! وكأننا مُكرَهون على الدّين دون الإفصاح.
لا يختلف اثنان في حديث محاولة النبي الانتحار على أنها عملية مجنونة، ولا تُعقل أن تكون حقيقية بحكم ما وضعناه في نَبيّنا من حلم وصبر وأناة، وما رسمناه في مخيّلتنا نحوه، كذلك لا يعقل أن يؤمن شخص بأن الرَّسول قد سَبَّ بكلام فاحش كما هو معروض في حديث آخر، أمورٌ يتوقف القلب خفية على المذاهب وخفية على المحدثين، وعلى الصحاح من الحديث أيضًا، غير مصدق وغير مستوعب لها ورافضًا لها، نرمي فضولنا المعرفي إلى مرض الوسواس، وننسى قوله عليه الصلاة والسلام : «استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك»، فأنا أجد بكل تأكيد أن هناك أمورًا لا يجب أن أصدقها لأنني إذا صدقتها سأكون أحمق غير عاقل. وإذا أردت أن أكتسي بالدين فالدين يشترط العقل، إذن لماذا من أجل أن يقدسوا الكُتب شوهوا الدين المحمدي؟ لا أدعو إلى الكفر بالكتب، ولكن إلى التفكر وامتلاك الشجاعة في البحث والمعرفة والعلم فالحق واحد لا يتيغير وكلنا نريده.
يقول الغزالي – رحمة الله عليه-: «أنا لا أخشى على الإنسان الذي يفكّر وإن ضلّ؛ لأنّه سيعود إلى الحق، ولكني أخشى على الإنسان الذي لا يفكّر وإن اهتدى؛ لأنّه سيكون كالقشة في مهب الريح».
ينبغي علينا ألا نلوم من يمشي خلف العقل، ولكن علينا أن نلوم من يمسك ببوصلة الحقيقة ويخفيها عنّا بحجة الفتنة، عليه أن يكون مرتاحًا ما دامت الحقيقة بجانبه، وأننا مهما فتَحنا مساحات الاتجاهات في صحراء الفكر، فعلينا ألا نخشى الهلاك، فالحقيقة تبزغ كالنور، كالسَّحابة تُضلُّنا وتمطرنا، وحتى لو أخطأنا فتكفينا نياتنا في البحث عنها، أليس للمجتهد المخطئ أجر؟ إن الذي يتحاشى في أن ينزع الحيرة بالبحث والتدقيق خوفًا من الفتنة، لا يدري أنه بصَمته وبكلمته هذه قد صنع فتنة من نوع آخر.
لا تبحث، لا تتعمق، لا تتفلسف، لا تفتش في التفاصيل، لا يجب أن تدخل الغار، لا يجب، لا ولا ولا ولا…
الله في أول كلمة منه نزلت إلى الأرض إلى «محمد» حيث الظلام الدامس في الغار هي «اقرأ»، تَعلّم وابحث واسأل، لا تجلس في هذا الظلام تلعنه، لكن عليك أن تضيئه بشمعة تغيير، واكسر هذا الجدار الذي أنت متقوقع فيه.
حينما كان الرسول «محمد» يذهب ليتعبد أنا لم أكن بجانبه، لكنني متأكد أن الكثير من الأسئلة كانت تأتيه، وكان يريد جوابًا لها، إنه في الأخير إنسان، وعبدٌ مثلنا، يصيبه من الفضول ما يصيبنا، وكان قد أصابته الحيرة ربما مثل ما تصيب الكثيرين منا اليوم بحكم عصرنة الحياة، والتجديد في الفكر والفلسفة والدين والعقيدة!
حَاشا أنَّ الله يخاف من التعمق في الأفكار؛ لأنه هو الهدف الأخير من كل عُمق، هو البحث عنه، عن الله.
إنَّ الرسول محمد – عليه الصلاة والسلام- قدوة لنا، إذن فعلينا أن ندخل الغار مثله، لن نخرج إلا وفي عقلنا منقوش أن الحلّ في كلمة «اقرأ».
أعلم أنني سأُنعت الآن بالردة، وربما هناك من ينعتني بالعلماني، الفتّان، الزنديق، الملحد، وآخر هو الآن ينفث أمام صورتي في المقالة ويتمتم بكلمات عني، كل هذا وأكثر ربما، لأنني الآن أحاول أن أدخلَ الغار مرة أخرى كي أخرج بكلمة «اقرأ» متجدّدة، وأنَّ الإسلام اليوم يحتاجنا، يحتاج منا أن نجلس كثيرًا بجانبه بصدق، لا بعواطف تلقائية أو فطرية، لا نريد تشويهه بنفيه هكذا بجانب الحروب والدماء، ولكن بفكر متجدد وبحوارات ودراسات ممنهجة، بسلام ومحبة واسعة، كي لا يستطيع أن ينازع مكانَتَه في قلوبنا وعقولنا فكرٌ آخرَ بمجرد لفظة صغيرة كان عيبُ العلماء أنهم لم يبيّنوها أو يخوضوا فيها مخافة الفتنة، فالفتنة اليوم الأكثر انتشارًا هي فتنة الجهل وعدم الوعي، كيف لا وكل الدماء اليوم تسيل باسم الإسلام؟ لماذا ينجح تسويق العنف بالإسلام فقط؟ أليس لضعف حُرّاسه؟!
لننزع أحذيتنا، لندخل الغار!
أرجوكم
ما الفرق بين العالم الذي دعا إلى السّلام، والذي دعا إلى العُنف باسم الإسلام ونجح، فصارت دولنا العربية مُخضبَّةٌ أرضها بالدماء، ليس من طرف غزاة كلا، ولكن من طرف أبنائها فقط أولئك المسلمين ! ما الفرق بينهما؟ أليست قوة الإقناع وقوة الحُجّة الفكرية؟ أليس الإسلام يدعو إلى السّلام منذ 14 قرنًا؟ كيف نَجَح هذا الأخير؟
الإسلام يحتاج منا أن نُطلق العنان للفكر والوعي؛ لأنّ الحقيقة عند الغالب صارت جلدة الدين الخارجية، والظّاهر فقط أصبح موضع القياس، لذلك كان سهلًا جدًا التأثير فيها أو تغييرها أو حتى حذفها أصلًا؛ لأنها رسخت سطحيًّا دون الخوض في العمق، أو التّغلغل بين الحروف، أو البحث في جذور هذه الشجرة، شجرة ديننا، وفهمها أكثر وفهم احتياجاتها، والتي صرنا نادرًا ما نسقيها، نادرًا ما نعتني بها، نحن فقط الآن نقطف ثمارها بدون الاعتناء بها، فلم تعد كالسابق في أول الصحوة.
الإسلام يحتاج منكم أن تدخلوا الغار!
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست