مراجعة في كتاب The globotics Upheaval
قبل الخوض في المضامين والأفكار والانطباعات، لا تفوتني الإشارة أولًا إلى أن القراءة في المواضيع الحية واكتساب صورة عامة حول ما يقع في العالم اليوم يستدعي بالضرورة الانفتاح على اللغة الإنجليزية. ما جعلني أركز على هذه الملاحظة أن جميع حواشي الكتاب الذي نحن بصدده هي عبارة عن مقالات علمية حديثة النشر، وبالتأكيد لغة البحث العلمي والتراكم المعرفي اليوم هي الإنجليزية على وجه الحصر، فالمواكبة في الزمن إذًا تساوي التعاطي مع اللغة الإنجليزية كأداة «عولمية» للتواصل.
موضوع الكتاب كما هو واضح في العنوان يدور حول ثورة التكنولوجيا الحديثة، الروبوتيكس أو الذكاء الاصطناعي في اتصاله بالعولمة والتحولات التي تعد به هذه الثورة على مستوى سوق الشغل بالأخص والنسيج المجتمعي عامة. وحتى أكون مباشرًا في عرض أهم معطيات وأفكار الكتاب في تقديري، سأعمل على صياغة العرض وفق نموذج سؤال/جواب.
لماذا لا نقدر مستوى التطور التكنولوجي بدقة وموضوعية في الغالب، إما تكون هناك مبالغة في التوقعات، أو يجري الاستخفاف بحجم التطور الحاصل في الواقع؟
– فيما يتعلق بالتوقع المستقبلي، العقل البشري يعمل وفق دالة خطية، وبالتالي، لدينا ميل قوي لافتراض أن الأشياء التي تغيرت بين الأمس واليوم ستتغير بين اليوم والغد بنفس الوتيرة إلى حد ما. قد يعتقد الكثير منا أننا بلغنا قمة التطور والحداثة، لكن في الواقع لسنا بعيدين عن زمن كانت فيه الأقواس والسهام تعد أسلحة عالية التقنية. أما التطور التكنولوجي فهو يمشي وفق دالة أسية، تخيل نموذج لدالة خطية في تفكيرنا حول التطور بالموازاة مع دالة أسية لحقيقة التطور التكنولوجي، تقدمت التكنولوجيا الرقمية بزيادات صغيرة في البداية منذ أن بدأت من الصفر. لسنوات كان التقدم غير محسوس تقريبًا، ولكن بعد ذلك أصبحت الزيادات هائلة. في البداية كانت الدالة y=x (تفكيرنا) تمنحنا تقدير مبالغ فيه overestimate حول التكنولوجيا الرقمية، وفي مرحلة إقلاع الدالة y=e^x (حجم التطور) أصبح هذا المنطق في التفكير (y=x) يمنحنا صورة من التبخيس وعدم التقدير للحجم الحقيقي للتطور الحاصل وهو في علياء التصاعد.
كيف نفهم وتيرة هذا التطور بصورة معقولة ونموذجية إذًا؟
هناك أربعة قوانين أساسية تحكم التطور الرقمي، وقد صنفها الكاتب كالتالي:
1- قانون مور Moore’s Law
تستثمر شركات تكنولوجيا المعلومات ملايين الدولارات على مدار سنوات لتطوير برامج متقدمة وخدمات اتصالات لا يمكن أن تعمل إلا على رقائق الكمبيوتر التي لم تكن موجودة بعد. وبالمثل فإن صانعي الرقائق يستثمرون مئات الملايين لسنوات لتصميم شرائح أفضل تحسبًا للطلب المتزايد الذي يتدفق من البرامج المتقدمة وخدمات الاتصالات السلكية واللاسلكية التي تأتي كل عام. بفضل هذا القانون غير المباشر، ستستمر الصناعة الرقمية في التطور على نحو تصاعدي رهيب.
2- قانون جلدر Gilder’s Law
توقع جيلدر بأن معدلات نقل البيانات data transmission ستنمو ثلاث مرات أسرع من قوة الكمبيوتر. هذا يعني أنه إذا تضاعفت قوة الكمبيوتر كل 18 شهرًا (وفقًا لقانون مور)، فإن قوة الاتصالات تتضاعف كل ستة أشهر. بعبارة أخرى يمكن اليوم إرسال المزيد من المعلومات عبر كابل واحد في ثانية واحدة مقارنة بمعلومات شهرية جرى إرسالها عبر الإنترنت بالكامل في عام 1997. وقد أنتج لنا هذا الجمع بين المعالجة السريعة للبيانات والنقل السريع لها بعض الشبكات الضخمة مثل «فيسبوك»، و«إنستجرام»، ثم الميتافيرس في المستقبل القريب _ والتطور مستمر.
3- قانون ميتكالف Metcalf’s Law
لاحظ روبرت ميتكالف بأن الاتصال بشبكة ما يزيد من قيمة الشبكة، حتى مع انخفاض تكلفة الانضمام. بعبارة أخرى ستستفيد شبكة ميتافيرس بوجود عدد مشتركين أكثر، حتى ولو كانت تكلفة الاشتراك منخفضة. فمن الواضح جدًا أن الشبكات تكون أكثر فائدة عندما تربط المزيد من الأشخاص والمزيد من أجهزة الكمبيوتر والمزيد من المعلومات. لكن هذا المنطق البسيط – المزيد من الروابط يعني المزيد من الفائدة – ليس هو مربط الفرس في هذا القانون، بل ينص قانون Metcalfe على أن قيمة الشبكة تنمو بشكل أسرع من عدد الأشخاص المتصلين بها، ليس فقط أسرع بقليل، بل بوتيرة مضاعفة.
فعندما يكون عدد مستخدمي الشبكة على سبيل المثال 100 ألف شخص، فإن عدد الاتصالات الجديدة المحتملة التي يجري إنشاؤها عن طريق إضافة مستخدم جديد آخر هو 100 ألف. عندما يكون هناك 200 ألف مستخدم تؤدي إضافة واحد آخر إلى إنشاء 100 ألف اتصال جديد.
بمعنى آخر لا يرتفع العدد المتزايد للوصلات الجديدة في خط مستقيم، بل ينمو حجم كل زيادة سابقة مع كل زيادة جديدة، لذلك يتغذى النمو على النمو.. النقطة الأساسية هنا هي أن الشبكات تصبح أكثر قيمة بشكل أسرع بكثير مما تكبر. هذا له بعض الآثار الهامة بالنسبة لعصر الجلوبوتيكس globotics.
الأول أنه يساعد في تفسير سبب اختلاف الاقتصاد في العالم الإلكتروني عن الاقتصاد في الفضاء الحقيقي. كما يساهم أيضا في توضيح سبب حصول شركات مثل Facebook، وWhatsApp، وTwitter على قيمة هائلة بهذه السرعة القياسية.
فعلى سبيل المثال جرى إطلاق «فيسبوك» عام 2004، ولكنه فُتح للجمهور فقط في سبتمبر (أيلول) 2006 (في البداية كان مخصصًا لطلاب الجامعات فقط). بعد خمس سنوات فقط كان هناك 600 مليون مستخدم. في عام 2012، حققت «فيسبوك» أرباحًا بلغت مليار دولار، اليوم لديها ما يقارب 3 مليار مستخدم، وتكسب أكثر من 20 مليار دولار سنويًا. هي أرقام فلكية تفسر الانكباب المتزايد على الاستثمار في المجال الرقمي، واعتلاء الشركات الرقمية عرش الصدارة في القيمة الاقتصادية اليوم.. والتي كانت تحتلها عادة شركات الغاز والصناعات الثقيلة.
4- قانون فاريان Varian’s Law
يشرح قانون فاريان سبب تغير الأشياء بهذه السرعة في هذه الأيام في العالم الرقمي، وتطور الابتكار بهذه الوتيرة المتسارعة التي نشهدها. أوضح فاريان أنه «بين الحين والآخر تأتي تقنية أو مجموعة من التقنيات التي تقدم مجموعة غنية من المكونات التي يمكن دمجها وإعادة تجميعها لإنشاء منتجات جديدة»، «وصول هذه المكونات يؤدي بعد ذلك إلى طفرة تكنولوجية جديدة حيث يعمل المبتكرون من خلال الاحتمالات التي تطرحها هذه المكونات من جديد».
وهنا يكمن الاختلاف الكبير بين ازدهار الابتكار في القرنين التاسع عشر والعشرين وانفجار الابتكار في عصرنا الحالي. اليوم المكونات عبارة عن أشياء مثل البرامج مفتوحة المصدر (open source programs)، والبروتوكولات (Protocols)، ومنصات برمجة التطبيقات (APIs). قد يبدو غريبًا أن هذه المكونات مجانية النسخ والاقتباس، حتى في عالم التعلم الآلي Machine Learning التنافسي، ينشر العلماء نتائج أبحاثهم الرئيسة في المجلات الأكاديمية المفتوحة، يجري نشر مجموعات بيانات التدريب الكبيرة بشكل روتيني وهي متاحة للتنزيل المجاني!
كما جعلت شركات مثل «جوجل» أقوى أجهزة الكمبيوتر لديها متاحة مجانًا للاستخدام عبر الإنترنت. وأتاحت شركة (IBM) أحدث أجهزة الكمبيوتر الكمومية الخاصة بها مجانًا من أجل إنشاء مجتمع من الخبراء الذين يعرفون كيفية استخلاص الفائدة من استعمال ذلك النموذج المبتكر من الحواسيب؛ ما قد يثير الاستغراب في هذه الممارسة الواسعة الانتشار هو أن المنتجات الرقمية المصنوعة من هذه المكونات المجانية غالبًا ما تكون ذات قيمة عالية جدًا. خلاصة قانون فاريان إذًا هي كالتالي: المعدات الرقمية تكون مجانية، بينما المنتجات الرقمية الناجمة عن توظيفها تكون ذات قيمة عالية. ينفجر الابتكار عندما يحاول الناس تحقيق الثراء من خلال العمل على مجموعات لا حصر لها من المكونات (التي تحدثنا عنها سابقًا) بحثًا عن إبداع منتجات رقمية ذات قيمة.
هذه القوانين تعطينا صورة عن مدى صلابة وحيوية هذا التطور الرقمي الآخذ في الانتشار، وغزوه للحياة الاقتصادية بعامة، وقد توسع الكاتب في توضيح هذه المعطيات التقنية التي لا يسمح المجال بالتعريج عليها جميعها، لكن الخلاصة العامة أن التطور الرقمي الكبير واقع ومستقبل لا مفر منه.
أما المجالات التي غطاها ويغطيها هذا الانفجار الرقمي، والتي تُرجمت إلى صناعة الذكاء الاصطناعي التي يجري توظيفها في ابتكار حلول تقنية مُعززة، فقد شملت تقريبًا جميع القطاعات، وقد ذكر الكاتب أمثلة حية منها شملت كل من: الأعمال المكتبية (السكرتارية وخدمة الزبائن)، الوظائف التي تتضمن أشخاصًا يتجولون ويتعاملون مع أشياء مادية (العمال وما يمشي في صنفهم)، قطاع التجارة المجزأة The retail sector (الأسواق والمولات)، أعمال البناء، حراس الأمن، قطاع المأكولات وتحضير الطعام، قطاع النقل، قطاع الصحة (الطب، التمريض، الصيدلة)، الصحافة، القانون، قطاع المالية Finance… والحاصل أن الكاتب لم يكتف فقط بالإشارة، بل أعطى نماذج حية لتطبيقات الذكاء الاصطناعي في كل هذه المجالات، وأفصح عن أهم المشاريع المرتقبة ضمن كل قطاع، حتى أنني تفاجئت من مستوى الذكاء الاصطناعي في إنتاج مقال صحافي وإنتاج تقرير قضائي، وتشخيص مرض عضال بناء على الكم الهائل من المعطيات (data) التي يجري معالجتها في أوقات قياسية من طرف ما يسمى بالروبوتات ذات الياقة البيضاء White collar robots (والمقصود بذلك لون الوزرة البيضاء التي تشير إلى صنف معين من الوظائف التي تستدعي القدرة العقلية والحظوة التعليمية كالطب والهندسة.. على منوال أصحاب الوزارة الزرقاء من عمال وتقنيين جرى تعويضهم بالآلة القابلة للبرمجة في نمطها الميكانيكي مسبقًا).
طبعًا منطق الربح لدى أرباب الشركات والأعمال يدفعهم لا محالة إلى الاتجاه نحو الرقمنة، وسؤال الوظائف أو المهام المتبقية للإنسان قد يكون غير مناسب، أو غير سليم في الصياغة؛ لأنه من المحتمل أن تنفتح آفاق جديدة وتظهر وظائف جديدة ليست ضمن نطاق تفكيرنا الخطي اليوم، لكن يمكن التنبؤ بمجالها ومواصفاتها العامة، والمعيار الواضح في هذا الصدد هو أن كل ما من شأنه أن يتضمن عمليات البحث عن المعلومات واستردادها من مصادر واسعة النطاق، التعرف على الأنماط البسيطة والمعقدة، تحسين وتخطيط نتائج موضوعية عبر قيود مختلفة وغير ذلك من أعمال ذهنية.. هي وظائف يمكن تعويضها بالذكاء الاصطناعي.. كل تفكير يتضمن آليات ليس فيها إبداع خالص ومجال للقلب والحدس الإنساني العميق هو محل للآلة في المستقبل القريب أو البعيد، ابتداء من سنتين إلى 50 سنة كأبعد تقدير، هذا مع العلم أن ذلك لا يعني بالضرورة الاستغناء عن حضور الإنسان ضمن هذه الوظائف، بل قد يكون الذكاء الاصطناعي في بعض المستويات مجرد أداة في يد العقل البشري والخبرة البشرية، لكن ذلك لا يستثني حصول انجراف لمجموعة كبيرة من الوظائف التي يشغلها اليوم مئات الملايين من الناس في وقت قياسي (mass job deplacments)، حيث سيكون لذلك أثر مهم ووازن في ميزان الاقتصاد والواقع الاجتماعي والنظام السياسي للمجتمع عامة، بل قد يعني ذلك حصول اضطرابات وانقلابات وتجمعات في الشوارع ومآلات خطيرة.
عن الآثار الاجتماعية والسياسية لهذا التحول
طبعًا لم يكن الكاتب ليقتصر على الجانب التقني في تناول المسألة، فالموسوعية والغنى الفكري هي من مميزات المثقف الأمريكي المعاصر عامة. حيث جرى استحضار كل الأبعاد السياسية والاجتماعية لهذا النوع من التحولات من خلال دروس التاريخ.. وحتى أختصر أكثر، استخلص الكاتب ثلاث مراحل أساسية ترافق عادة هذا النوع من الطفرات وتأتي على نمط جدلي: الاضطراب Upheaval، رد فعل أو حركة ارتجاعية Backlash، ثم حل Resolution. لنأخذ الثورة الصناعية كمثال، تمثل الاضطراب الناتج عن هذه الثورة العظيمة في الحرب العالمية الأولى والأزمة الاقتصادية، أما رد الفعل العنيف أو الحركة الارتجاعية فقد جاءت في صيغة أديولوجيات سياسية وعدت بحماية المجتمع وخلق البديل لأخطاء الرأسمالية الصناعية والسوق الحرة، من ذلك الأنظمة الفاشية التي ظهرت في أواخر العشرينات للقرن الماضي، والحل تأتى في صيغة أنظمة حاولت الجمع بين المتناقضين يمكن رؤية نموذج لها في سياسة New deal لفرانكلين روزفلت أو ما سمي بدولة الرفاه welfare-state.
هل نعيش مرحلة اضطراب مشابهة؟
– نعم، نوعًا ما.
ما هي صيغة رد الفعل؟
– انتخاب دونالد ترامب سنة 2016 كنموذج مٌفارق لرجل الدولة (Outsider)، أحداث الكابيتول سنة 2021.. ظهور التيار الشعبوي عمومًا.. وغير ذلك من مظاهر عدم الرضى والخلاف التي جاءت في مجملها كرد فعل على فقدان الرجل الأبيض وظائفه واضطراب أحواله الاقتصادية (معاداة للعولمة وانبعاث الشعور القومي)..
– النيوماركسيون يعتبرون الداتا Data التي يجري جمعها «قسرًا» و«بدون إذن أو موافقة» من طرف الشركات الرقمية الكبرى كـ«جوجل» و«فيسبوك» تمثل في جوهرها قيمة العمل The labor value الجديدة التي يجري على أساسها إنتاج القيمة الاقتصادية في المجتمع الرقمي.. هو إذًا استغلال طبقي جديد وفق القاموس الماركسي، وهناك دعوة إلى وعي طبقي جديد في هذا الصدد.. وذلك حديث آخر.
– هذا النوع من التحولات لا يُستبعد فيه حصول عنف وثورات حسب مرآة التاريخ، إذا ما ترافق بمعدلات كبيرة من الفوارق الاجتماعية طبعًا.. كيف يساير صناع القرار وأصحاب المصالح الاقتصادية الكبرى هذا التحول في احتكار وتركيز الثروة دون ضرر على مكتسباتهم إذًا، دون اختراق الحشود سياج منازلهم الفاخرة أو ذبحهم وتخريب ممتلكاتهم؟
– ربما تخفيض عدد السكان Depopulation حل عملي في هذا الصدد.. ليس غريبًا أن أحد أكبر القائمين على ورش الذكاء الاصطناعي (بيل جيتس) هو نفسه القائم على السياسات الصحية الكبرى، وحملات الاهتمام المبالغ فيه بمصير البشرية.. الأمر يستحق النظر والتفكير.
في النهاية الأبعاد السياسية والاجتماعية وحتى النفسية أمور أساسية في مواكبة هذا التحول وفهم تداعيات عصر الرقمنة Globotics حسب تعبير الكاتب، والحقيقة أنه أفرد لها فصول خاصة – رغم طغيان نظرة تفاؤلية ساذجة لا أتفق مع مجملها – أما أنا فقد أكون ركزت أكثر على البعد التقني من تحليلات الكاتب من خلال هذه المراجعة العاجلة، وإلا فالموضوع في مجمله يستحق الاستفاضة أكثر واستحضار الجانب السياسي والاجتماعي منه.. لأنه وببساطة موضوع الساعة بامتياز.
عمومًا، الكتاب جميل وأنصح بمطالعته للتوسع أكثر في الموضوع.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست