في لسان العرب نجد أن (الإله) هو الله وأن كل ما اتخذ من دونه معبودًا إله عند متخذه وأن الجمع آلهة. فكل ما يعبدهُ شخص يسمى إلهًا كما قال موسى للسامري عن العجل الذي عبده بنو إسرائيل: (وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفًا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفًا) (طه: 97)، فالعجل إله للسامري لأنه عبده، ويشير لفظ الإله إلى كل ما يُعبد.
وفي تراث الأديان التوحيدية الثلاثة يوصف الإله بما يمكن أن ندعوه الكليات الثلاثة الآتية:
أولًا: يعتقد أن الإله كلي المقدرة، وهذه تعني أنه قادر على فعل كل شيء.
ثانيًا: يعتقد أن الإله كلي الرحمة والمحبة، لذلك لا حدود لعنايته.
ثالثًا: يعتقد أن الإله كلي المعرفة أو عالم بكل شيء لا أحد يستطيع أن يتوارى عن الإله لأنه قادر على رؤية كل شيء ومعرفة كل شيء.
كما يعرف الفلاسفة المسلمون الله بتأثير من ميتافيزيقا أرسطو بأنه: الفعل المحض الذي لا يوجد موجود أكثر كمالًا منه، إنه الفكر المحض (فكر الفكر) محض تأمل وفكر ومعرفة، ومن فعل تأمل الله في ذاته صدر الخلق برمته، الخلق الذي كان يُنظر إليه على أنه الشاهد المرئي على وجود الله، المنبثق من الغنى اللامحدود الذي تُخفيه ماهيته.
بينما نرى في المعتقد الماركسي أن الإله كما عبّر عنه مكسيم غوركي بالقول: كان الإله الذي أتكلم عنه موجودًا يوم كان الناس يصنعونه من مادة أفكارهم، ليُنيروا به ظلمة وجودهم، غير أنهم عندما انقسموا إلى عبيد وأسياد وتفرقوا شعوبًا وقبائل، عندما مزّق الناس أفكارهم وإرادتهم؟، مات الإله، تحطم الإله !… أكبر جريمة ارتكبها أسياد الحياة هي أنهم حطّموا قوة الشعب الخلاقة. وسيأتي وقت تعود فيه إرادة الشعب كلها في بؤرة واحدة، ولا بد أن تظهر فيها عندئذ قوة عجيبة لا تُقهر، فينبعث الإله من جديد ! ذلك هو الإله الذي تبحث عنه ياماتفي !. لقد كان يتبارز أمامي رجلان ينكران الله، وهما مفعمان بإيمان صادق. فأسأل نفسي: ما هو معتقدي؟ ولا أعرف الجواب. وبدلًا من سؤالي: أين الله، برز سؤال جديد هو: من أنا، ولماذا أنا موجود؟ ألكي أبحث عن الله؟
في التجربة الصوفية نرى أن الله هو روح الكون، وفي لحظات التجلي يفقد الصوفي ذاته ويختفي ليذوب في ذات الله، كقطرة ماء تضيع نفسها عندما تندمج بمياه المحيط، ويستطيع المتصوف أن يصرخ قائلًا: أنا روح العالم أو أنا الله، وهذا ما عبّر عنه أحد الهنود بقوله: عندما كنت لم يكن الله، عندما يكون الله لا أكون أنا. أما المتصوف المسيحي انجيلوس سيليسيوس فيقول: إن كل قطرة تصبح هي المحيط عندما تذوب في المحيط، تماما كما تصبح الروح عندما ترتفع وتصبح الله.
في حين نرى المتصوف ابن عربي الملقب بالكبريت الأحمر وقطب الأقطاب، في تفسيره للآية: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) (ق: 16) يفسره بالحلول والاتحاد أي بحلول الخالق في جسد الإنسان واتحادهما، بحيث يصبح الإنسان هو الله والله هو الإنسان، فيقول: وما خص إنسانًا من إنسان، فالقرب الإلهي من العبد لا خفاء به في الإخبار الإلهي، فلا قرب أقرب من أن تكون هوّيته [أي: هوية الله] عين أعضاء العبد وقواه، وليس العبد سوى هذه الأعضاء والقوى فهو حق مشهود في خلق متوهم.
في الهند يُطلق صفة الملحد على الإنسان الذي لا يؤمن بوجود إله خارج شخصه، فقد ذكر سوامي فيفكانادا الذي عرف الغرب بالفكر الهندي الشرقي: نحن نقول أن الملحد هو الذي لا يؤمن بذاته، بروعة روحه، هذا ما نسميه الإلحاد. وقد تساءل سدهارتا يومًا: أين يمكن العثور على أتمان (النفس أو الذات الداخلية)، أين يسكن هو، أين ينبض قلبه السرمدي، إن لم يكن في أنا الفرد نفسه، في الباطني، في ما لا يُهدم، الذي يحمله كل فرد في داخله؟ لكن أين هو هذا الأنا، هذا الباطني هذا الأخير؟ ليس لحمًا ولا دمًا، ليس فكرًا ولا وعيًا، هكذا يعلّم أكثر الحكماء حكمة. أين، أين هو إذًا؟ النفاذ إلى هناك إلى الأنا إلى الذات – أمن درب آخر يجب البحث عنه؟ آه، ولا أحد يدلّ على هذا الدرب، لا أحد يعرفه، لا الأب ولا المعلّمين والحكماء، ولا أغاني التضحية المقدّسة ! يعرفون كل شيء، البراهمة بكتبهم المقدّسة يعرفون كل شيء، وكل شيء، بل أكثر أيضًا، موضع اهتمامهم: خلق العالم، نشوء الكلام والطعام والشهيق والزفير، أنظمة الحواس وأفعال الآلهة – يعرفون أمورًا لا نهاية لها – لكن، أمن قيمة في معرفة كل ذلك، إذا ما جهل المرء الأمر الأهم، الأمر الوحيد المهم؟
فمن هو الله إذًا؟ وماذا يكون؟ أهو كما عبّر عنه الديانات التوحيدية؟ أم كما هو ما موجود في العقيدة الماركسية؟ أو لعل الأقرب إلى حقيقة الله ما ذكره المتصوفون؟. حتى لا يضيع قارئنا في متاهات الآراء والأفكار حول الله وطبيعته، نرى أن أقرب وصف لله أو للإله من وجهة نظرنا هو ما ذهب إليه ولتر ستيس في كتابه (الزمان والأزل) والذي بيّن بأن الله هو من قبيل الغيب ولا يمكن معرفته بالعقل والطرق الاستدلالي، وأن معرفته لا يمكن أن تكون إلا بالاتصال المباشر أي بالحدس أو بالرؤية الصوفية، فيذكر: إنه ليس ثمة استدلال منطقي يمكن أن يرقى بنا من المستوى الطبيعي إلى المستوى الإلهي أو من النظام الطبيعي إلى النظام الإلهي، وليس ثمة شيء يمكن تسميته باسم اللاهوت الطبيعي. معنى هذا أنه إما أن يعرف الله عن طريق الوحي (أي طريق الحدس)، وإما أنه لا يعرف على الإطلاق، فالألوهيّ ينبجس من أعمق أعماق أساسات الإدراك المعرفي الذي تحوز النفس، ورغم أنه يأتي الوجود بطبيعة الحال في قلب المعطيات الحسيّة، ومادة العالم الطبيعيّ التجريبيّة، ومع أنه ليس بمستطاعه أن يتقدّم على تلك، ولا أن يستغني عنها، إلاّ أنه يبزغ كما عبّر عنه أوتو انطلاقًا منها، بل عبر قنواتها فقط، إنها المحرّض والدافع، والفرصة لكي يستفيق الاختبار الألوهي؛ فيشرع من ثم ينبث ويتشابك في عالم الاختبار الحسي القائم، عبر انتفاضة ساذجة منه أولًا كردّة فعل، حتى إذا ازداد شيئًا فشيئًا نقاوة يُعتق ذاته منه، ويفوز بقوامه في تناقض مطلق معه. وليس الوحي شيئًا قد حدث في الماضي، بل هو شيء يحدث في كل لحظة من لحظات الزمان، وفي كل قلب من القلوب، وإن كان من شأنه أن يصل إلى أعلى لحظة من لحظاته في الإشراق الموجود لدى الصوفي العظيم.
لكن كيف استوعبت الأواني الصغيرة للديانات التوحيدية الثلاثة ; ذات الله الذي لا يوصف ولا يدرك، بحيث أنها تفلت إفلاتًا تامًا من الإحاطة بها بواسطة المفاهيم، ولا أشك لحظة أن ما قدمته الأديان التوحيدية بخصوص (ذات الله) ما هو إلا غيض من فيض، فكيف يمكن أن يصف إنسانٌ فان هذا الفيض الطافح الذي حين سألوا قديسة جنوى كاترينا أن تُعبّر عنها، قالت: يا ليتني أستطيع أن أروي لك ما يشعر به القلب، كيف يتحرّق ويتلظّى في داخله ! ليت شعري، لا حيلة لي إلى كلمات أعبّر بها عن ذلك، لا أقوى إلا على قول هذا: عسى قطرة صغيرة ممّا أشعر به تقع في جهنّم، فتنقلب جهنّم فردوسًا.
وقد وصفها هاينرخ سوزو المتصوف الألماني المولود سنة (1295م) وصفًا محكمًا حين قال: أيها الرب الرءوف والمحبّ، طالما رامت نفسي منذ نعومة أظفاري شيئًا ما بعطش اشتياق شديد، أيها الرب ؛ أما ذاك فلم أدركه بعد حق الإدراك. أيها الرب، إن لي سنوات كثيرة أجد كادحًا في إثره، ولم أجد لي للفلاح سبيلًا حتى الآن، لأني لا أعرف حقًا ما هو. ومع ذلك، هو شيء يجر قلبي ونفسي وراءه، وبدونه لا أستطيع أبدًا أن أجد الراحة التامة. أيها الرب، كان يلذّ لي في أولى أيّام صباي أن أبحث عنه بين المبروءات، إذ رأيت آخرين يفعلون ذلك قبلي. وكلّما ازددت بحثًا عنه قلّ عثوري عليه؛ وكلّما دنوت منه أكثر افتقدته أكثر فأكثر.. أما الآن فإن قلبي يتفطّر من أجله، لشدة سروري بحيازته.. يالي من إنسان شقيّ! ما هذا الذي يصول في داخلي متخفيًّا، أو كيف اتّخذ شكلًا له؟
فالتجربة الدينية أو التجربة الصوفية هي تجربة حقيقية بقدر ما هو حقيقي الوقوع في الغرام أو الإعجاب الشديد بالشعر والفن، ونرى أن الله يعرف بالإيمان وليس بالعقل، والإيمان لا يعني التصديق الأعمى الذي لا ينهض عليه برهان أو التي تتعارض مع كل برهان، إن مهمة الإيمان إنما هي الكشف عن الله، وتكمن مهمة العقل فقط في العمل على تأويل الحقائق التي يزودنا بها الحدس، أو بتعبير ستيس أن العقل يعمل في الإطار الذي حدده له الإيمان والوحي، وأن مصدر كل حقيقة إلهية هو الحدس، والوعي الألوهي لا يمكن تلقينه لأحد، وإنما ينبغي له أن يوقظ من داخل الروح.
أما الأدلة العقلية التي يلجأ إليها بعض الفلاسفة من قبيل: الدليل الغائي، والدليل الكوني أو دليل النظام، نرى أن الانتقال من النظام الطبيعي كمقدمة نستند إليها حتى نصل إلى النظام الإلهي الذي يبدو في النهاية بمثابة النتيجة التي يخلص إليها الدليل على وجود الله إجراء مستحيل، لأنه ببساطة المقدمة مستمدة من العالم الطبيعي في حين أن النتيجة موجودة في العالم الإلهي، وهنا يذكرنا إحدى مقولات جون ستيوارت مل في سيرته الذاتية حين قال: لقد زرع أبي في ذهني منذ الصغر فكرة أن طريقة بدء وجود العالم مسألةٌ لا شيء معروفًا عنها، ولا سبيل عندنا إلى الإجابة عن سؤال من صنعنا؟ لأننا لا نمتلك تجربة أو معلومة أصلية نستطيع الإجابة انطلاقًا منها، وليس من شأن أي إجابة عن هذا السؤال مهما تكن الإجابة، إلاّ أن تلقي بالمشكلة خطوة إلى الخلف لأن ثمة سؤال يطرح نفسه على الفور عند ذلك، إلا وهو: من صنع الله؟، فإذا كان من الممكن أن يكون هناك إله بدون علة أو سبب، يمكن إذن أن يكون العالم بدون علة أو سبب أيضًا، إنها تمامًا مثل نظرة الهندوسي في أن العالم يرتكز على فيل، والفيل يرتكز على سلحفاة وحين سألوه: ماذا عن السلحفاة؟ قال: دعونا نغير الموضوع.
كما أن أية علة عاقلة للعالم المادي يتم الوصول إليها عن طريق مثل هذا الاستدلال لن تكون إلاّ كائنًا طبيعيًا آخر – بمعنى جزءًا من النظام الطبيعي – ولن تكون هي الله وإنما ستكون على أحسن الفروض مجرد صانع، إن اليقين الفلسفي بتعبير هنري برجسون على درجات، وهو يستعين بالحدس كما يستعين بالبرهان وإذا كان من الممكن أن يمد الحدس القائم على العلم فلن يكون ذلك إلا بالحدس الصوفي.
فمن وجهة نظرنا أن الحدس الصوفي تتمثل في حب الله والذوبان في محبته، وليس كما ذهب إليه بعض أتباع الصوفية بأنه في لحظات التجلي يفقد ذاته ويختفي ليذوب في ذات الله، إنما يكون الذوبان ذوبان الحب في الله، وهو منفصل عن الوجود كله كما يقول ألفرد نورث وايتهد في كتابه (الدين في دور التكوين) عن طبيعة الله الذي يرى فيه الله كائنًا حقيقيًا ولكنه من نوع خاص، فهو ليس كائنًا زمانيًا دنيويًا، بل هو الأساس السابق المشروط لكل ما هو إنساني، إن الله متقدم على العالم بالزمان وهو خارجه، وهو ليس نتيجة العالم أو معتمدًا عليه مع أن العالم يحتاج إليه، فالله ليس مشروطًا بالعالم وهو لهذا ليس زمانيًا دنيويًا.
ولما كانت هذه الكائنات منفصلة عن الله، وكان لا يمكن أن توجد إلاّ في كون فكان هذا الكون الذي نحيا فيه، إذًا إن الكون بكل ما فيه من مادة وحياة وقوة دافعة للحياة، إنما هو مخلوق لمبدع خالق، وبين الخالق والمخلوق رغم تمايزهما هذا الحب المتبادل، فبالحب فقط يمكن أن نتعرف على الله. وقد عبّر عن هذا الحب برجسون حين قال: إن قوة مبدعة هي الحب تريد أن تستخرج من ذاتها كائنات جديرة بأن تحب لتستطيع أن تنثر عوالم تكون ماديتها، من حيث هي نقيض للروحانية الإلهية معبرة فقط عن التميز بين ما هو مخلوق وبين من يخلق.
المصادر
· ابن منظور، بدون تاريخ النشر: لسان العرب، م13، دار صادر – بيروت.
· طاليس، أرسطو، 2008م: ما بعد الطبيعة، دار ذو الفقار – اللاذقية.
· غوركي، مكسيم، 2008م: اعتراف أين الله، ترجمة: د. فيروز نيّوف، دار التكوين – دمشق.
· غاردر، جوستاين، 1996م: عالم صوفي (رواية حول تاريخ الفلسفة)، ترجمة: حياة الحويك عطية، ط2، دار المنى – ستوكهولم.
· ابن عربي، بدون تاريخ النشر: فصوص الحكم، ج1، دار الكتاب العربي – بيروت.
· هسه، هرمان، 2013م: سدهارتا، ترجمة: جيزلا فالور حجار، ط2، دار المدى.
· ستيس، ولتر، 2013م: الزمان والأزل، ترجمة: د. زكريا إبراهيم، الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة.
· أوتو، رودولف، 2010م: فكرة القدسيّ، دار المعارف الحكمية – بيروت.
· مل، جون ستيوارت، 2015م: سيرة ذاتية، ترجمة: الحارث النبهان، دار التنوير للطباعة والنشر – بيروت.
· برجسون، هنري، 2010م: منبعا الأخلاق والدين، ترجمة: سامي الدروبي وعبد الله عبد الدائم، الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة.
Thompson (K. F.)، 1971: Whiteheads Philosophy of Religion، Mouton، the Hague- Paris.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست