ربط كثير من المؤرخين الإرهاب بقدم العلاقات الإنسانية على وجه الأرض، لكونه يستمد استمراريته من الصراع بين الخير والشر، الحق والباطل؛ فهو علاقة عكسية تزداد أو تتقلص وفق دائرة العلاقات الاجتماعية، ومدى تمسك أفراد المجتمع بمنظومة القيم والأخلاق، أي أن تفشي الظلم والفساد داخل المجتمع يرافقه بالضرورة ظهور بعض ملامح العنف ليصل إلى درجة «الإرهاب»، ولم يخل زمن من الأزمان من هذه الظاهرة منذ قتل قابيل لهابيل حتى وقتنا هذا، مع اختلاف حدتها وأسلوبها.

كما لم يسلم الرسول – صلى الله عليه وسلم – من إرهاب من لم يؤمن برسالته، مما اضطر المسلمين وقتها إلى الهجرة إلى الحبشة ويثرب – المدينة المنورة – تاركين خلفهم أموالهم وديارهم في سبيل الإسلام – الدين الجديد وقتها -؛ لذا يعد نسب ظاهرة «الإرهاب» إلى الإسلام خطأ علميًا وتاريخيًا فالعمل على تأويل بعض الآيات أو الأحاديث بما يخدم أهواء الملتوين لا يعني بالضرورة أنها تنسب إلى الدين بل لمرتكب الفعل الإرهابي نفسه.

الطيب ونظرية غوبلز

لا ينفك فضيلة الإمام الأكبر أ. د/ أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، عن إدانة كل عمل إرهابي يرتكب سواء في مصر أو في العالم، انطلاقًا من المسئولية الملقاة على عاتقه، وظهر هذا جليًا عقب تفجيري كنيسة مار جرجس بطنطا والكنيسة المرقصية بالإسكندرية «وعزاؤنا أيضًا أنَّ هذا الدَّم البريء الذي سُفِكَ على أرض مصرَ اليوم لم يُفرِّق فيه الإرهاب الأسود بين مسلمٍ ومسيحيٍّ، ممَّا يؤكد على أنَّ ما حدث لم يكن يستهدف فريقًا دون آخر بقدر ما هو مخططٌ إجراميٌّ مرسوم لضرب استقرار مصر وزعزعة أمنها وإشعال فتيل حربٍ أهليةٍ بين الأقباط والمسلمين؛ حتى يتمَّ للمخربين وأعداء الحياة تنفيذ مخططهم الغادر الأثيم».

ومع الهجمة الأخيرة على الأزهر الشريف من قبل بعض وسائل الإعلام ومُدعي الثقافة، نجد تخوف فضيلته من دور الإعلام في وقتنا هذا وتأثيره على توصيل صورة الإسلام بشكل صحيح في محلها، وتجسد هذا في قوله: «الأمر الذي يقلقنا في إعلامنا المعاصر هو برامج فوضى الفتاوى الشاذة والجدال في الدين بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، وهذه آفة كبرى لبست ثوب الدين، ونزلت إلى الناس وحسبوها العلم الذي لا علم غيره، وصادفت منهم قلبًا خاليًا فتمكنت منهم، وبسبب هذه البرامج انتقلت الخلافات التي كانت هي من سفاسف الأمور وتوافهها، إلى حياة الناس بتأثير الإعلام وانقلبت إلى دين وشريعة وإسلام».

أي الإعلام ليس بريئًا من الدماء التي تراق بل له دور بارز لكونه الوسيلة الأكثر تأثيرًا وانتشارًا بين جموع الناس على اختلاف ثقافتهم وأعمارهم وتدينهم؛ لذا إلقاء الاتهام مع كل عمل يرتكب باسم الدين الإسلامي على المناهج الأزهرية والأزهر الشريف وشيخه الجليل، لا يفسره سوى أسلوب يدّرس في كليات الإعلام في مصر والعالم وهو نظرية غوبلز «أسلوب التأطير»، والتي تستخدم من قبل الإعلام ورجال السياسة للسيطرة على العقول والرأي العام من خلال تأطير الخيارات مسبقًا، وهي تنسب إلى غوبلز (وزير دعاية نظام هتلر)، وأشهر أمثلتها استخدام الولايات المتحدة لهذا الأسلوب في «مقاومة الشيوعية» لضمان تأييد الرأي العام للتدخل في الشئون الداخلية للعديد من دول العالم الثالث، وكذلك استخدمت في حرب العراق عام (2003)، حيث قامت ﻭﺳﺎﺋﻞ ﺍﻹﻋﻼﻡ ﺑﺘﻌﺒﺌﺔ ﺍﻟﻄﺮﻓﻴﻦ ﻋﻠﻰ ﺃﻥ ﺍﻟﻤﻌﺮﻛﺔ ﺍﻟﺤﺎﺳﻤﺔ ﻫﻲ ﻣﻌﺮﻛﺔ ﺍﻟﻤﻄﺎﺭ، ﻓﺄﺻﺒﺤﺖ ﺟﻤﻴﻊ ﻭﺣﺪﺍﺕ ﺍﻟﻘﻮﺍﺕ ﺍﻟﻌﺮﺍﻗﻴﺔ ﺗﺘﺮﻗﺐ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﻌﺮﻛﺔ، ﻭﻋﻨﺪ ﺳﻘوﻂ ﺍﻟﻤﻄﺎﺭ، ﺷﻌﺮ ﺍﻟﺠﻤﻴﻊ ﺃﻥ ﺍﻟﻌﺮﺍﻕ ﻛﻠﻪ قد ﺳﻘﻂ ﻭﻣﺎﺗﺖ ﺍﻟﺮﻭﺡ ﺍﻟﻤﻌﻨوية، ﺑﺎﻟﺮﻏﻢ من ﺃﻧﻪ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﻟﻢ ﻳﺴﻘﻂ ﺳﻮﻯ ﺍﻟﻤﻄﺎﺭ! أي أن الهدف من وراء ذلك الأسلوب مقاومة فكرة ما بأسلوب غير نزيه لإحلال أخرى محلها ليصبح السؤال هنا من المستفيد من محاولات هدم الأزهر الشريف؟! وما الخطوة التي ستعقب تلك الهجمة على الأزهر؟!

الدعوة إلى التخلص من الإسلام نهائيًا

والغريب في الأمر أن من يهاجم الأزهر الآن ممن يصنفون النخبة المثقفة، قرؤوا تاريخ مصر وصادفهم الدور الذي لعبه الأزهر خلال ثورة 1919م، وصعود علماء المسيحيين قبل المسلمين على منبر الجامع الأزهر لمخاطبة الجماهير الثائرة ضد الاحتلال وقتها، وخروج المسيحيات من مسجد السيدة زينب إلى جانب النساء المسلمات، مما دفع الاحتلال الإنجليزي وقتها للسعي إلى تعميق حالة الانفصال بين المسلم ودينه ردًا على تحرك الأزهر، واللعب بملف «الأقليات» – مع التحفظ على المسمى – وظهر هذا جليًا في معاهدة سنة 1936م، وسعيه عبر شروطه إلى إبعاد المسلم عن التعاليم الإسلامية في حياته سواء في الدراسة أو القضاء إلى غيره من أمور حياتية، وتحولت الحركات الداعية للاستقلال إلى حركات عزل للإسلام عن الحياة العملية العامة؛ مما سهل نفاذ الفكر الغربي «المادي» إلى العقول، ولا أبلغ من النخبة المثقفة للقيام بهذا الدور، ومع اختلاط المفاهيم والمعاني لديهم أصبحوا يرون (القديم = التخلف) و(التجديد = الحضارة) فشجع بعضهم على الدعوة إلى التخلص نهائيًا من الإسلام واللغة العربية عام 1938م، لذا لا عجب عندما قال عنهم لينين «إن المثقفين هم أقدر الناس على الخيانة لكونهم أقدر الناس على تبريرها».

دفعت هذه الدعوات إلى ظهور جماعات مضادة لها، وكان على رأسها في ذلك الوقت «الإخوان المسلمون» بقيادة حسن البنا والذي رفع شعار «الإسلام: دين ودولة.. مصحف وسيف»، كل هذا والأزهر بعلمائه ورجاله يواجهون هذه الأفكار المتطرفة والشاذة عن صحيح الإسلام حتى وقتنا هذا مع اختلاف نوع الاستعمار في عصرنا الحديث.

وقد تظهر تلك الجماعات بفعل عوامل مجتمعية وظروف تفرض وجودها حتى لو كانت مشوهةً للحقائق، وقد تصنع على يد من يرغبون في تحريك الأوضاع لصالحهم وقد حدث بالفعل ونستشهد هنا باعتراف هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة أن أمريكا هي من صنعت «تنظيم القاعدة» الذي يقاتلها اليوم، لأسباب متصلة بصراعه مع الاتحاد السوفيتي السابق، ولوقف تمدده في أفغانستان مستخدمة المجاهدين العرب في ذلك.

وهو ما أكده بريجنسكي مستشار الأمن القومي للرئيس كارتر في مقابلة مع المجلة الفرنسية «النوفيل أوبزرفاتو»، عندما قال إن بلاده سعت لإدخال الاتحاد السوفيتي في حرب شبيهة بحرب فيتنام، والتي استمرت عشر سنوات أفقدت الإمبراطورية هيبتها ومكانتها وأدت إلى تفككها، وحين سألته المطبوعة الفرنسية عن التبعات التي ستلحق بأوروبا وأمريكا والعالم بسبب دعم الأصولية الإسلامية أجاب: «ما هو أكثر أهمية للتاريخ طالبان أم انهيار الاتحاد السوفيتي، بعض المسلمين الهائجين أم تحرير أوروبا ونهاية الحرب الباردة؟!».

هذا التوظيف البراجماتي لمسألة الجهاد كان السبب في تعميق ظاهرة العنف، وهو ما شرحه «أندرو جافن مارشال» في دراسته بعنوان «البنية الإرهابية للقاعدة» وما أطلق عليه «نادي السفاري»، وهو تحالف وكالات الاستخبارات المختلفة والتي تنسق مع الــ«سي آي إيه»، وتأسس في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، والذي صاغ علاقة أمريكا وأوروبا بالعالم الإسلامي والتي تقوم على فكرتين رئيسيتين هما:

ــ افتح جروح التنوع الطائفي والعرقي في المنطقة لكي يقاتل الناس بعضهم بعضًا بعيدًا عن التحالف في مواجهة المصالح الغربية.

ــ استمرار تطوير توظيف القوة المتطرفة للإسلاميين في مواجهة الاتحاد السوفيتي (روسيا الاتحادية حاليًا) عدو الغرب، والذي يتم التسويق له باعتباره قوة ملحدة معادية للإسلام أو في مواجهة أي قوة أخرى يرى الغرب ضرورة التخلص منها كما حدث مثلًا في يوغوسلافيا، وكما يحدث الآن في سوريا، حيث تتجلى سياسة: (دع هذه القوة المتطرفة التي أوجدناها يقاتل بعضها بعضًا حتى تُفنى).

كل ذلك أدى إلى حالة من التخبط في حياة المسلم بشكل عام، خاصة مع انتقال المعركة إلى قلب المنطقة العربية، والذي أججه الغزو الأمريكي على العراق في 2003 وإسقاط صدام حسين، وأعقبه قدوم أبي مصعب الزرقاوي وجماعته إلى العراق، وظهور ما يعرف إعلاميًا بـ«داعش»، وفتح الباب أمام الجيل الثاني لتنظيم القاعدة الذي كان أكثر شراسة، وفي تأجيج الصراع المذهبي والطائفي في العراق وفي المنطقة كلها، مع استغلال الغرب لحالة الاستسهال التي تُميز الشعوب العربية والإسلامية حاليًا في ظل تصاعد حدة التكنولوجيا وتعدد وسائل الحصول على المعلومة الدينية بدون الرجوع إلى القامات الدينية كالأزهر للتأكد منها.

الأمر الذي انعكس على مفهوم «الجهاد» في العقول والنفوس فبدأ يظهر وكأنه العدو الأكبر للمسلمين وغير المسلمين على السـواء مما أفقده معناه الحقيقي وهدفه، ليقف الأزهر – وحيدًا – لمواجهة كل ذلك وتصحيح ما أفسده الاستعمار ورجال السياسة على مدار أعوام.

وأمام كل هذا لم نجد إعلامًا واعيًا على قدر عالٍ من المعرفة والحكمة ليصل بعقل المتابع من عامة الجمهور إلى فهم صحيح لما يحدث في مصر والمنطقة ككل، بل كل ما وجدناه إعلام قائم على التحريض ومحاولات التخوين والهدم للرموز الوطنية في الدولة، بحجة محاربة الفكر المتطرف والإرهاب حتى باتوا هم أنفسهم من صُناع الإرهاب، إرهاب من نوع خاص؛ إرهاب لكل يد تحاول البناء، إرهاب للنفوس الوطنية، إرهاب للأزهر ورجاله لدفعهم بعيدًا عن أي عملية بناء حقيقية – إن وجدت – في الوطن.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

كتاب مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي لــ مالك بن نبي
ـالفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي لـــ محمد البهي
مقال "انقلاب السحر على الساحر: العنف المسلح من أفغانستان إلى بلاد العرب" للدكتور كمال حبيب
عرض التعليقات
تحميل المزيد