فترة الحكم الانتقالي في العالم العربي والسودان خصوصًا

في جميع الدول التي حدثت فيها انتفاضات شعبية أدت إلى إزالة الأنظمة الديكتاتورية وحاشيتها، تأتي الفترة الانتقالية التي تجتمع فيها القوي الثورية (الطرف الأول القوي العسكرية، الطرف الثاني القوي المهنية والسياسية والنضال المسلح) لتشكيل الحكومة الانتقالية التي يكون هدفها نقل الدولة من نظام ديكتاتوري إلى ديمقراطي رشيد، فيسعي طرفي القوى الثورية للتفاوض لاختيار شكل الحكومة الانتقالية كما حدث في السودان. فيتم طرح سؤال مهم جدًا:

هل نظام الحكم الانتقالي (التكنوقراط لا حزبية) أم (المحاصصة) هو الأنسب لشكل الحكومة الانتقالية بعد الانتفاضات الثورية ولماذا؟

قبل الإجابة، يعتقد أغلبية العرب والسوادنين بسبب العقل الجمعي الفاسد المكون تاريخيًا مثل (رجال الإعلام، والسياسيين، والمناضلين، والكتاب الثوريين، والمنتسبين للجان المقاومة في الأحياء، وأعضاء مؤسسات المجتمع المدني واللجان الحقوقية والفنية)، يعتقدون بأن التكنوقراط تعني مجموعة من الناس ذوي الكفاءة ثم يقفون هنا. وعندما تسألهم: ماذا تعنون بالكفاءة؟ تأتي آراء مختلفة تدل على الغباء والجهل الساذج وجهل بحقيقة الأشياء التي يصيحون بها في الطرقات ليل نهار. فأغلبهم يقولون إنها تعني: «أن يكون العضو المرشح لمنصب حكومي عام حاصلًا على (مؤهل علمي في الاختصاص، خبرة عملية حياتية، سجل نضالي في العمل العام، خلو سجله التاريخي من الجرائم العامة). فهل اعتقادهم هذا صحيح؟ فلنحاول الغوص في أعماق التكنوقراط.

س1: ما هي التكنوقراط؟

التكنوقراط بالإنجليزية (Technocracy) هي كلمة الأصل فيها يوناني من كلمتين: الجزء الأول تكني تعني فني وتقني، بينما الجزء الثاني كراتس تعني سلطة وحكم؛ ما يعني أنها شكل من أشكال الحكم خاصة في الفترة الانتقالية بعد نجاح أي انتفاضة شعبية بإسقاط النظام لما لها من معايير صارمة. فالبعض يسميها حكومة التقنية أو حكومة الكفاءات، وبناء على ذلك فإن الحكومة التكنوقراطية تتشكل من الطبقة العلمية الماهرة المثقفة، وهي حكومة متخصصة في مجالات الحياة الإنسانية (الصحة، التعليم، الاقتصاد، الصناعة، والتجارة… إلخ). هذه الحكومة يكون أفرادها متخصصين علميًا وعمليًا في المجالات المرتبطة بالوظائف الحكومية العامة (مثل الاقتصاد، المالية، البني التحتية، العلاقات الدولية، التعليم، الصناعة التجارة… إلخ). من الناحية الأخرى، تكون غير حزبية فهي لا تهتم كثيرًا بالفكر الحزبي والحوار السياسي، بل تقلل تَدّخُّلْ الأحزاب السياسية والتنظميات الأيديولوجية في إدارة الفترة الانتقالية بعد الانتفاضات أو في فترات الطوارئ الوطنية أثناء الكوارث. لهذا التكنوقراط (الكفاءات) دائمًا ما يكونوا كشرط أساسي غير محزبين سياسيًا وغير مؤدلجين، أي غير تابعين لأي تنظيم ثوري أو عسكري عمليًا أو بكلمات أخرى غير منتسبين لأي حركات أيديولوجية يسارية أو يمينية. وهذا يعني أن أول معيار للتكنوقراط هو عدم الانتماء السياسي لأي حزب سياسي وعدم الانتماء الأيديولوجي لأي تنظيم ثوري أو عسكري (حركات أيديولوجية يسارية أو يمينية)، بينما تأتي باقي المعايير بعد هذا المعيار مثل التأهيل العلمي، الخبرة العملية… إلخ، وليس كما يعتقد أغلبية العرب والسودانيين حاليًا.

س2: ما هو الهدف الأساسي من حكومة التكنوقراط؟

الهدف الأساسي هو أن يشرعوا ويخططوا وينفذوا سياسات وقوانين تؤدي إلى معالجة التحديات العاجلة والمهمة كمهام وأهداف مؤقتة (مثل توفير الخدمات العامة المعيشية من تعليم وصحة ومواصلات ووقود وأمن، محاربة المفسدين مؤسسيًا، تحقيق السلام الاجتماعي، إصلاح النظام الاقتصادي، محاكمة المفسدين والقاتلين من النظام السابق وقبله، إصلاح العلاقات الدولية الخارجية، محاصرة العنصرية والمحسوبية بحكم القانون، تنظيم وهيكلة العلاقة مع القوات النظامية). وهنالك أهداف مستقبلية تأسيسية مثل (عقد مؤتمر مصالحة ومسامحة عامة بين مكونات المجتمع ورد المظالم، تاسيس دستور انتقالي وليس دستورًا دائمًا، تحديد كيف ستحكم الدولة، أي شكل نموذج للحكم، تحديد هوية الدولة، تحديد علاقة الدين مع الدولة، نقل السلطة عبر انتخابات نزيهة حرة مستقلة). كل هذا يجب أن يجعلهم ينقلوا الدولة من نظام حكم ديكتاتوري إلى نظام حكم ديمقراطي رشيد يتوافق مع تطلعات الشعب وتاريخهم وقيمهم ودينهم وأعرافهم. فهل يستطيعون أن يحققوا هذه الأهداف، والمهام في حال كان لهم انتماء لحزب سياسي أو لتنظيم أيديولوجي؟ نحن نقول إن هذا غير ممكن لأنه سوف يؤثر على استقلاليتهم في اتخاذ القرار، ومهنية عملهم، وسيجعل هنالك صراع بين تحقيق مصلحة المواطنين العامة ومصلحة انتمائهم للحزب السياسي أو التنظيم ما يرجعنا إلى دائرة الديكتاتورية.

س3: ما هي المعايير الكاملة لاختيار التكنوقراطيين في الحكومة الانتقالية بعد الثورات؟

المعيار الأول هو الاستقلالية السياسية والأيديولوجية. بمعني الاستقلالية السياسية من الانتماء لأي حزب سياسي، والاستقلالية الأيديولوجية من الانتماء لأي تنظيم أو مؤسسة تحمل موقف أيديولوجي يساري أو يميني، سواء كانت تجمعات أو حركات مسلحة أو مؤسسات مجتمع مدني. فهنا يجب على المرشح أن يكون مستقلًا سياسيًا بمعني ألا يكون عضوًا في اي حزب سياسي أو له سابق عضوية فيه أو اتصال معهم، بالإضافة إلى الاستقلالية الأيديولوجية بمعني ألا يكون المرشح له انتماء لأي تنظيم له موقف أيديولوجي من النظام الذي تم إسقاطه، سواء كانت حركة يسارية (تتبني الفكر اليساري التحرري) أو حركة يمينية (تتبني الفكر الديني). هذا المعيار هو أساس تكوين حكومة التكنوقراط، بل من دون هذا المعيار تصبح هذه الحكومة حكومة محاصصات لتقاسم المناصب أو سمها ما تشاء. ففي أغلبية الدول التي سقطت أنظمة الحكم الديكتاتورية فيها، لم يتم الالتزام بهذا المعيار من قبل القوي الثورية (المدنية والعسكرية) مثل ليبيا، واليمن، ومصر، ولهذا فشلت جميعها في إدارة وإنجاح الفترة الانتقالية. ففي السودان، تم إسقاط هذا المعيار ولم يتم العمل به من قبل قوى الحرية والتغيير في السودان عند اختيارهم للمرشحين لمناصب الحكومة الانتقالية، خاصة عند ترشيحهم أعضاء للمجلس السيادي ومجلس الوزراء.

فلقد صرح عدد كبير من قيادات قوي الحرية والتغيير بأنهم لن يرشحوا أعضاء من قياداتهم للمجلس السيادي أو مجلس الوزراء لأنه قد يكون له انتماء سياسي وأيديولوجي، وسيؤثر على مهنية وحيادية وفاعلية الحكومة. ولكنهم خرقوا هذا العهد ورشحوا أعضاء في المجلس السيادي لهم انتماء تاريخي لأحزاب سياسية، بل رشحوا أعضاء لهم انتماء لأحزاب سياسية في مجلس الوزراء.

ثم ذهبوا أبعد من ذلك بأنهم رشحوا عضوًا من قياداتهم لوزارة الصناعة والتجارة مع أنهم تعهدوا قبل ذلك بأنهم لن يرشحوا أحدًا من قياداتهم لمجلس الوزراء. فهل هذه حكومة تكنوقراط أم حكومة محاصصات سياسية وأيدويولوجية؟ وعندما تسألهم لماذا رشحتم واحدًا من قياداتكم لمجلس الوزراء؟ يقولون إن رئيس الوزراء اختاره! ولكن كيف يرشح رئيس الوزراء شخص لوزارة في حال أن الوثيقة الدستورية قطعت بأن قوى الحرية والتغيير هي التي ترشح الوزراء، وليس رئيس الوزراء. وكيف يرشح رئيس الوزراء شخص له انتماء أيديولوجي. هل تلعبون بعقول الناس أم ماذا؟

المعيار الثاني هو التأهيل العلمي في اختصاص المنصب المرشح له. بمعنى أن يكون الشخص المرشح يملك شهادة علمية في المنصب المرشح له مثل أن يكون له شهادة ماجستير أو دكتوراة كأقل درجة لأنها تجعله قادرًا على الاجتهاد الفكري باستخدام أدوات البحث العلمي في اختصاص المنصب بتشخيص جذور المشاكل، ثم حلها وتكوين رؤية وخطة إستراتيجية مستقبلية. فمثلًا منصب الصحة يتم ترشيح شخص له شهادة علمية فيها. ولكن في السودان، قو  الحرية والتغيير لم تلتزم بهذا المعيار، بل رشحت شخصًا مثلًا لوزارة الصناعة والتجارة لا يملك شهادة علمية في مجال التجارة والصناعة، ثم بعد أن انتقدهم الناس قالوا لهم إن لديه معرفة بالتنمية، وقالوا إن رئيس الورزاء رشحه. فما علاقة التنمية بالتجارة والصناعة؟ هل سيتم تمرير أجندات عبر هذه الوزارة العجيبة.

المعيار الثالث هو سنين الخبرة العملية في ةختصاص المنصب المرشح له. بمعنى أن يكون الشخص المرشح يملك سنين خبرة عملية بين 10 سنوات؛ لأنها المدة المعتمدة في دورة حياة أي وزير أو رئيس في الأنظمة الديمقراطية.

المعيار الرابع هو نظافة التاريخ الشخصي من الجرائم. بمعني ألا يكون له أي اشتراك مباشر أو غير مباشر في أي جرائم (عامة محلية، إقليمية، دولية) مثل (جرائم المال العام، الرشاوي، التزوير، السرقة، الاحتيال المالي، امتلاك أي حصص في شركات فاسدة مزورة مثل شركات الأمن المملوكة للأنظمة السابقة، الابتزاز المالي). وألا يكون له اشتراك في جرائم الشرف (مثل الاغتصاب، التحرش والابتزاز الجنسي)، جرائم جنائية (مثل القتل، التعذيب، التهديد لأي شخص)، جرائم دولية مثل العمل في أو دعم منظمات إرهابية.

المعيار الخامس هو الصحة العامة. بمعنى أن يكون خاليًا من الأمراض المزمنة والدائمة التي تؤثر علي العمل اليومي مثل الأمراض العضوية الفسيولوجية (التهابات المخ، أمراض الأعصاب، أمراض الغدد الصماء (الصنوبرية، النخامية، الدرقي … إلخ). أيضًا يكون خاليًا من أي حالات نفسية مثل (الاكتئاب المعنوي والاضطرابات النفسية). وأن يكون خاليًا من الأمراض العقلية (مثل محاربة الحقائق ورفض القيم بعد معرفتها يقينيًا). وهذا يتم بواسطة لجنة إخصائيي صحة مستقلين.

فما هي حكومة التكنلوقراط اللاحزبية واللا أيديولجية؟

حكومة التكنوقراط اللاحزبية واللاأيديولوجية هي التي يكون فيها جميع المرشحين للمناصب العامة في الحكومة الانتقالية في الحالات الاستثنائية بعد الثورات في (المجلس السيادي ومجلس الوزراء ومناصب الولاة) ليس لهم انتماء لحزب سياسي (ولم يكن لهم انتماء أو عضوية أو اتصال أو تبعية لأي حزب سياسي في تاريخهم)، وأيضًا لا يكون لهم انتماء أيديولوجي أو عضوية لأي تنظيم أو مؤسسة ثورية حالية، ولم يكن لهم عضوية في حركة مسلحة (قوي النضال المسلح) بمعني أن يكونوا مستقلين سياسيًا وأيديولوجيًا.

وهذا حتى لا يؤثر انتماؤهم السياسي لأي حزب على طريقة استعمالهم للسلطة في حال اعتمادهم للمنصب فيستعملونها بطريقة غير عادلة ضد أي حزب آخر، وحتي لا تؤثر انتماءاتهم الأيديولوجية للتنظيمات الثورية، فيمررون أجندة تخدم مصلحة التنظيمات ولا تخدم المصلحة العامة للمواطنين، وحتى لا يؤثر انتماءهم لاي حركة مسلحة في تمرير أجندة الحركات المسلحة، وليس أجندة تخدم مصالح المواطنين. لهذا فأي حكومة انتقالية لا تخضع لهذا المعيار فهي حكومة محاصصات حزبية سياسية وأيديولوجية تخدم أجندة خفية لتنظيميات وأحزاب خفية وليست حكومة تكنوقراط تخدم المصلحة العامة للمواطنين. فالحكومة الانتقالية الحالية في السودان هي حكومة محاصصات حزبية وأيديولوجية، وليست حكومة تكنوقراط وفقًا للمعايير المذكورة أعلاه. فأي حكومة انتقالية تتشكل بعد الانتفاضات الثورية يكون أعضاؤها لهم انتماء لحزب سياسي (أو سابق عضوية واتصال أو تبعية)، ولهم انتماء أيديولوجي لأي تنظيم أو مؤسسة ثورية حالية، فهذه الحكومة مصيرها الفشل بنسبة كبيرة لماذ؟ أولًا، لأن الفترة الانتقالية فترة حساسة جدًا تحيط بها تحديات داخلية وخارجية لا تتحمل انتماء سياسيًا وأيدلوجيًا لأي مرشح للمنصب لكي يعمل من أجل الصلحة العامة فقط وليس أي تنظيميات أخرى وأحزاب سياسية.

ثانيًا، لأن الانتماء السياسي والأيديولوجي سيؤثر على استقلالية العضو في (الوزارة أو المنصب)؛ ما يجعل قرارته وسياسياته التي يتخذها غير مستقلة لأن انتماءه للحزب وللمؤسسة الأيديولوجية سيجعل قراراته منحازة لمصالح الحزب أو المؤسسة الأيديولوجية، وليس مصلحة المواطنين العامة.

ثالثًا، سيؤثر على حيادية الحكومة ككل وصاحب المنصب، بمعنى أنه قد يستعمل سلطة ونفوذ المنصب لتصفية حسابات تاريخية مع (شخصيات في أحزاب سياسية أو مؤسسات عامة أو مع رموز النظام السابق؛ ما يجعل الهدف تصفية الحسابات، وليس تأسيس سياسات انتقالية عادلة. كل هذا سيؤثر على نجاح الحكومة الانتقالية في تحقيق أهدافها التي ذكرناها في الفقرة ما هو الهدف الأساسي من حكومة التكنوقراط.

فمن غسل أدمغة أغلبية السودانيين بالمعنى المغلوط لحكومة التكنوقراط ومعاييره؟

بعض مكونات القوى الثورية في قوي الحرية والتغيير في السودان، خاصة الأحزاب السياسية روجت وزرعت في عقول السودانيين عبر إلقاء المصطلحات بصورة مبسطة سهلة في المنابر الشعبية والخطابات العامة الشعبوية وفي خطابات التعبئة وعبر تعليق إعلانات في الطرقات وعبر تكرار كلمة كفاءة بصورة دائمة في جميع وسائل الإعلام، وهذا يغيب العقل والتفكير والتحليل عند الإنسان ويحرك العاطفة وتجعل الإنسان يقبل بأي شي يقال له، لأن العقل يتوقف عندما تتحرك العاطفة، حتى لو كان ذلك خصمًا على المصلحة العامة. فهذه الأحزاب زرعت في عقولهم بأن معنى التكنوقراط هو الكفاءة، والكفاءة تعني أن يكون العضو المرشح لمنصب عام حكومي لديه (أي مؤهل علمي يكون قريبًا من مجال المنصب، خبرة عملية قريبة من مجال المنصب، سجل نضال ضد نظام الحكم الديكتاتوري، خلو سجله التاريخي من الجرائم العامة)، فقبله أغلبية السودانيين دون أن يبحثوا عن صحة المعنى، ودون تفكير نقدي لما يتم ترويجه، ودون نقاش موضوعي مع القوى الثورية في السودان (قوى الحرية والتغيير) حول أولوية معايير الاختيار لترشيح أعضاء الحكومة. فهل هذا سلوك ديمقراطي يغيب به الشعب عن حقيقة الأشياء! وهل هذه هي المدنية التي ينتظرها الشعب السوداني! وهل هذا هو الوفاء بالعهود والمواثيق التي قطعتوها في السابق!

والله تعالى أعلى وأعلم وأحكم.

 

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد