منذ أن استولى الإنجليز على الهند، وأحكموا قبضتهم عليها بعد فشل ثورة عام 1857، صبُّوا المسلمين أنواعًا من العذاب، ثم أغلقوا المدارس والمعاهد الإسلامية القديمة محاولة للقضاء على كيانهم ومعالم ثقافتهم، فأقلقت هذه الظروف العصبية العلماء الربانيين، بدأوا يبحثون عن حيلة يتخلصون بها من هذه الأزمة الشديدة. بعد تفكير طويل وجدوا حيلة ناجعة تضمن إيمان المسلمين وتكفل انتصارهم في ساحة الحياة، وهي أن تُنصَب شبكة المدارس والمعاهد والكتاتيب الإسلامية الأهلية التي تضَخُّ الدماء القانية الزكية في عروق الأمة الإسلامية الهندية، وتحافظ على هويتها وثقافتها. وكانت هذه المدارس تجري على نفقات الشعب المسلم، ولا تعتمد ميزانيتها على الحكومة.
فأول مدرسة أنشئت على هذه الطريقة هي جامعة دار العلوم ديوبند، التي أسسها قائد العلماء الثائرين على الحكومة الإنجليزية في شبه القارة الهندية الشيخ قاسم النانتهوي عام 1866 في محافظة أتهر برودش بالهند بعد ما شعر أن الكفاح المسلح لا ينجح ضد الاستعمار ما لم يعد جيل مسلم مزود بالعلم الشرعي الخالص، فترك الكفاح المسلح وانشغل بالتعليم والتربية، ثم تتابع إنشاء المدارس على غرارها في شبه القارة الهندية – الهند، وببغلاديش، وباكستان– والبلاد المجاورة لها، فصارت في كل حي من أحياء المدينة أكثر من مسجد وكتاب قرآني صباحي، وكان أطفال المسلمين يذهبون إلى المدارس بعد العودة من الكتاتيب. وتوجد الآن عشرات آلاف من المدارس العربية التابعة للمنهج الديوبندي في الهند، وباكستان، وبنجلاديش، وقد لعب خريجو جامعة دار العلوم الديوبندية دورًا أكبر في تحرير شبه القارة الهندية – الهند، وباكستان، وبنجلاديش- من الاستعمار البريطاني.
ولكن توجد بجانب المدارس، والكليات، والجامعات القومية مدارس وجامعات عربية أخرى معروفة بالمدرسة العالية، وهذه المدارس منقسمة بين منهجين، المدارس القومية تتبع منهج «دار العلوم الديوبندية»، والمدارس العالية تتبع المنهج الذي وضعه المستشرقون في عهد الحكم الإنجليزي، وكلا المنهجين يتبع الفقه الحنفي.
ويوجد في بنجلاديش الآن أكثر من 20 ألف مدرسة عربية، بالإضافة إلى آلاف حلقات تحفيظ القرآن المجيد، ومعظمها تتبع المنهج الديوبندي، وتُطلق كبرى المدارس التابعة لمنهج مدرسة كلكتا العالية على نفسها لقب «المدرسة الفاضلية» و«المدرسة الكاملية» بعبارته العربية كما تُطلق كبر المدارس العربية التابعة للمنهج الديوبندي على نفسها لقب «الجامعة»، وذلك أيضًا بعبارته العربية، وتُدرس في الأعوام النهائية الدراسية لهذه المدارس «الكاملية» و«الجامعة» كتب الأحاديث الصحاح الستة – صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن أبي داود، وسنن الترمذي، وسنن النسائي، وسنن ابن ماجه- إضافة إلى موطأ الإمام مالك، وموطأ الإمام محمد، ومعاني الآثار للطحاوي- وتقع أكبر خمس من هذه المدارس «الجامعة» في منطقة شيتاغونغ .
والجدير بالذكر أن الحكومة الإنجليزية كانت أسست «المدرسة العالية العربية بكلكتا» بعد 23 سنة من احتلال مناطق البنجال، وإلغاء التعليم الإسلامي فيها؛ هدفًا لإضعاف القوة الإيمانية للدارسين فيها، فأدار المستشرقون هذه المدرسة زمنًا طويلًا، إلا أنها لم تنجح كما أرادت. وهذا القسم من المدارس العربية مدعومة من الحكومة ومعترف بشهاداتها رسميًّا، وللحكومة عليها رقابات، إلا أن العمل التعليمي والتربوي فيها ضعيف بالنسبة للمدارس القومية التي تتبع المنهج الديوبندي، فإن العلم والعمل به قويان. فكانت هذه المدارس لها سماتها وخصائصها، فمن أهم سماتها البارزة أنها كانت تعتمد على تبرعات الشعب المسلم، ولا تأخذ أي معونة من الحكومات والحكام، فإن الخبرة تقول: إنه من يأخذ المعونة من الحكومة لا تجد الحرية في عمليته، لذا فكرت هذه المدارس أن تبتعد من الحكومة لتؤدي دورها في حرية كاملة، وترتبط بالشعب المسلم أكثر، وتوفر التعليم لجميع طبقات المجتمع.
وكذلك كانت هذه المدارس تهتم بمنهج دار العلوم ديوبند، وتُبعدها من الحكومة، حتى لا تتدخَّل فيها الحكومة، فإن مناهج دار العلوم ديوبند تركز على الكتاب والسنة، والعناية البالغة بالفقه الإسلامي، والاهتمام بالعلوم العقلية حتى صار منهجها الدراسي جامعًا متكاملًا يُمثِّل الثقافة الإسلامية في ذلك العصر، فجميع هذه المدارس تعنى بالتعليم بمنهجها الدراسي المقرر. فلهذا أنكرت المدارس القومية أن تأخذ الاعتراف الحكومي بشهاداتها من الحكومة خشية الرقابة الحكومية وتدخُّلها في منهجها، فيضعف علمُها وعمُلها، وخوفًا من انقسام هذه المدارس إلى أقسام، فإن هذه المدارس تجري تحت مجالس عدة، وبعضها ترغب في الاعتراف الحكومي وبعضها لا ترغب.
ولكن مع مر الزمان تغيرت الحالة، وأصبح من الضروري أن تكون شهاداتها معترفة ومدعومة من الحكومة للقيام بخدماتها؛ فخلقت هناك حركة المطالبة بقبول شهادات المدارس القومية؛ لأن معظم الناس لا يُلحقون أبناءهم بهذه المدارس بسبب أنها لا تمتلك على شهادات حكومية، وبما أن بنجلاديش هي ثاني أكبر الدول المسلمة في العالم؛ فهي في أمس حاجة إلى تنمية العلاقات بالعالم الإسلامي خاصة بالعالم العربي. ولكن مع الأسف ليس هناك علاقة تذكر بين تعلميها الإسلامي وبين الجامعات الإسلامية للبلدان العربية. وإننا نعلم أن أصحاب شهادات العالم من المدارس العالية الحكومية ينالون المنح الدراسية والفرص للدراسة في بعض جامعات المملكة العربية السعودية ومصر وغيرهما، وفي حين يحرم طلاب المدارس القومية هذه الفرص مع أنهم أكثر مهارة وممارسة في تعلم الدين واللغة العربية. وإن حكومتنا ومجالسنا التعليمية والجامعات الأجنبية تغض النظر عن هذه القضية. وهؤلاء الطلاب لا يمكنهم بأسباب معقولة أن يجدوا فرصة الرحلة الدراسية إلى بلدان الخارج حاصلين على شهادة العالم بعد أن يكملوا دراسة التكميل في المدارس القومية، فبدأ العلماء يطالبون الحكومة باعتراف شهاداتها، فخرجوا في الطريق عام 2004م للمطالبة باعتراف الحكومة بشهاداتهم، ولكن حكومة الحزب الوطني البنجلاديش أنكرت أول وهلة أن تعطي الاعتراف الحكومي بسبب وجود آلاف من المدارس العربية التابعة لمنهج مدرسة كلكتا العالية، والتي هي مدعومة ومعترف بشهادتها من الحكومة. ولكن هذه المطالبة تركزت على مر الأيام حتى اضطرت الحكومة أن تعلن أنها تعطي الاعتراف الحكومي، ولكنها لم تستطع أن تكمل إجراءاتها اللازمة، حتى انتهى عهدها.
وفي حكومة حزب رابط عوامي ظهرت هذه المطالبة من جديد بعد حادثة مجزرة 6 مايو (أيار) 2013 التي وقعت في ساحة شابلا بحي موتيجيل بالعاصمة داكا، إذ إن ليلة 6 مايو 2013 كانت آخر ليلة كثير من طلبة المدارس القومية في هذه الدنيا، أخليت ساحة موتيجيل من محبي الإسلام بقتل كثير من طلاب المدارس القومية وعلمائها في أكبر مجزرة جماعية في تاريخ البنجال، إذ شارك 10 آلاف من قوات الأمن بعد ما قطعوا رابط الكهرباء وطردوا الصحافيين بإلقاء الرصاص الحي على المعتصمين بما فيهم شيوخ وأطفال، إذ كانوا يذكرون الله، وغسلت قبل طلوع الشمس الشوارع التي جرت فيها أنهار الدماء، وحرقت أحذيتهم وحقائبهم.
وكان ذنب هؤلاء أنهم طالبوا بإغلاق سبل الإلحاد والتغريب والفحش في بلادهم الإسلامية التي أكثر من 95% من أهلها مسلمون، ويبلغ عدد المسلمين فيها 160 مليونًا.
وكان سبب هذه المجزرة في نظر المحللين السياسيين هو الخوف الزائد للحزب الحاكم العلماني من السقوط، وعدم وجود الفرصة للفرار من المحاكمة بعد سقوط الحكومة. إذ ظنوا أن قادة جماعة «حفظة الإسلام» المنظمة للاعتصام تحالفوا مع المعارضة لإسقاط الحكومة بهذا الاعتصام الهائل.
ولتبريد هذا الغضب الشديد في المدارس القومية اقترحت الحكومة من نفسها أن تعطيهم الاعتراف الحكومية، ولكن العلماء أول مرة لم يرضوا أن يأخذوا الاعتراف من هذه الحكومة، أخيرًا رضوا أخذَه ولكن بشرط عدم الرقابة عليه، ففي مساء 11 أبريل (نيسان) 2017 أعلنت رئيسة الوزراء الشيخة حسينة في حضور 300 عالم من قمة العلماء في المبنى العام بدكا عن معادلة شهادة دورة الحديث مع شهادة الماجستير في قسم الدراسات الإسلامية والعربية، ثم بعد إكمال جميع الإجراءات اللازمة شُرع مشروع قانون الاعتراف الحكومي للمدارس القومية في البرلمان، وبذلك تحقق أهم المطالب التي قد ادعى بها علماء المدارس القومية منذ عقدين من الزمن تقريبًا، وجاء هذا الإعلان بعد اتحاد المنظمات التعليمية الستة المرتبطة بالمدارس الإسلامية القومية باسم الهيئة العليا للجامعة القومية بنجلاديش.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست