مصر النشأة والتاريخ، لها تميز لا ينكره إلا حاقد أو جاهل، وأقصد بالنشأة والتاريخ المكان والحدث. هذا التميز يؤيده أنها ذُكرت باسمها العلم في كتاب الله تعالى في معرض المدح بأمنها وثرواتها كما في قصة يوسف، أو بغناها وتسيدها كما في قصة فرعون. لا تنس أنني أتكلم عن مصر باسمها العلم، وباعتبار النشأة والتاريخ.
فهناك بلاد على جلالة قدرها ورفعة مكانتها لم تُذكر في القرآن إلا بصفاتها فقط دون اسمها العلم ولا اسم أي منطقة من مناطقها إلا بوصف عام يصح إطلاقه على المقدس من الأرض غيرها، وذلك على الرغم من اشتمالها على أماكن مقدسة ذات شأن في الإسلام وعند المسلمين.
وبلاد أخرى على ضخامتها وقوتها وأهميتها للعالم الإسلامي في فترات الخلافات الإسلامية بعد الخلافة الراشدة لم يأت القرآن على ذكرها لا تصريحًا ولا تلميحًا، اللهم إلا كمكان لا أثر له في مجريات الأحداث، مجرد مكان، وذلك فضلًا عن السياق الذي ذُكر فيه.
وهناك البلاد التي مثلت نقطة الانطلاق ونواة التغيير غير أنه لم يُذكر منها علمًا سوى مكة والمدينة وهما مهد الرسالة وموطن فتوتها، ثم (إرم ذات العماد) التي صب الله عليها سوط عذاب، وكذلك مدين والقرى الظالمة لأقوام لوط وثمود وصالح، عليهم السلام، وكلها سياقات لا أثر للمكان في سير أحداثها، وبخلاف ذلك لا ذكر – فيما أعلم- لأي منطقة من مناطقها.
وأؤكد أن عدد مرات ذكر مصر باسمها ليس سر خصوصيتها ولا فضلها على غيرها، فعدد مرات ذكر مكة أقل من عدد مرات ذكر مصر، وتظل مكة خير البقاع وأطهرها وأهمها وأفضلها بلا أدنى شك، وكذلك بلاد الشام لها من الفضل والرفعة الدينية ما ليس لمصر، لكن ذلك لا يمنع من كون مصر لها خصوصية ميزتها عن سائر البلاد، فإن كانت مكة والمدينة بمثابة روح الجسد الإسلامي، وإن كانت الشام بمثابة قلبه، وإن كان العراق جمجمته، فإن مصر تمثل أطرافه وعضلاته وقواه التي تُستكمل بها حياته وسعيه.
ولمصر ميزة أخرى تتعلق بمكونها البشري ليست لغيرها من الدول المحيطة، ولن يدرك هذا إلا من كان له احتكاك مع شعوب هذه الدول، هذه الميزة هي قوة نسيجها المجتمعي وطريقة تألفه بل وائتلافه. فسكان مصر كلهم مصريون ليس لهم ولاء وطني مختلف، فلا وجود لعرقيات كما الحال في دول الجوار؛ إذ تجد الدولة مؤلفة من عرقيات مختلفة، فأنت حين تسأل أحدهم عن جنسيته تراه يضيف إليها العرق الذي يتحدر منه، فهذا كردي، وذلك تركي، والثالث فارسي وهكذا، بل إن هذا التصنيف يُضاف لبطاقة التحقيق الشخصية الخاصة بكل مواطن، فضلًا عن أن كل عرق يحرص على تعلم اللغة الخاصة به إضافة إلى لغة البلد الأصلية. لكن المصري مصري وفقط بدون إضافات لا عند ذكر جنسيته ولا في تحقيق شخصيته ولا مكان للغة غير لغة بلده، إلا تلك اللغات التي يتعلمها الناس لكسب العيش والشياكة الاجتماعية، وهذا لا يعني عدم وجود عرقيات بين المصريين، بل إن هناك عرقيات لكنها قليلة العدد منعدمة التأثير، وقد ذابت في النسيج العام ذوبان السكر في الماء.
هذه الميزة تمتد لتشمل المكون الديني والثقافي أيضًا، فمصر دولة مسلمة بنسبة 90 إلى 95% من عدد السكان، وكامل هذه النسبة من الطائفة السُنيَة، والبقية من السكان نصارى يمثل الأرثوذوكس الأغلبية الساحقة بينهم، فليس إذًا إلا أغلبية مسلمة سُنية وأقلية مسيحية أرثوذوكسية، وكلهم مصريون كما ذكرت. لكن الوضع عند الجيران مختلف تمامًا، فالشعب مختلف الأعراق كما ذكرت، مختلف الديانات كذلك، لا أقول الخلاف بين دين وآخر، وإنما بين المنتسبين للدين الواحد. فالمسلمون فيها سُنَة وشيعة، والسنة فيهم فرق ومذاهب، والشيعة حدث ولا حرج. أما النصارى فملل شتى يصعب عليك حصرها فضلًا عن العلم بطقوسها، وقد وصل عدد الطوائف في بلد مساحته كمساحة واحدة من صغرى محافظات مصر إلى ثماني عشرة طائفة دينية.
ولا أعني بكلامي أن مصر بلا خلافات، لكني قصدت أنها ليست تلك الخلافات والاختلافات التي تهدد بتمزيق النسيج بكليته، أو الاحتراب العام أو الحرب الأهلية كما وقع في غيرها من الدول.
وللقارئ الكريم أن يتساءل: إذا كان الأمر كما وصفت، فكيف تفسر الحال الذي وصلت إليه البلاد؟وما تفسيرك للخلاف المجتمعي الحاد الذي وقع في الآونة الاخيرة؟ وأين ما يقتضيه وصفك من شيوع الأمن في ظل ما نراه من حوادث وجرائم يندى لها الجبين؟
أقول: كل هذه أسئلة مشروعة وواقعية وأنا قد أشرت إلى أن الخلافات والانقسامات سنة من سنن الله لا يخلو منها مكان ولا زمان، بيد أن الفرق أن مصر لقوة النسيج وتماسكه للأسباب المذكورة يصعب معه تمزقه على الرغم من المحاولات البائسة واليائسة التي ترمي لتحقيق هذا الغرض الدنيء.
وثمة أمر آخر وهو أن نار الانقسامات في غيرها من الدول على النحو المذكور لا يحتاج لمن يشعلها؛ إذ إن شعلتها ذاتية فيها حتى ولو كان أوارها الماء وليس النار.
وأخيرًا أقول:
بلد ذكرها الله في معرض المدح بالأمن والسعة والاستقلالية والتسيد أكثر من مرة.
بلد شعبها نسيج واحد ولسان واحد بلا عرقيات متناوئة ولا ملل متناحرة ولا لغات متباينة.
بلد فيها الأزهر منارة العلم ومصنع العلماء.
مصر بهذا الوصف تستحق بلا شك أن تكون في مكانها اللائق بها لو حسنت النوايا وأخلصت القلوب وشُمرت السواعد.
ولكنها بلد تمثل ميزاته مصدر نعمته ونقمته، منحته ومحنته، سعادته وشقائه، صداقته وعداوته. إنه بحق لبلد عجيب.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست